ثقافة

قراءة نقدية في الشعر العربي المعاصر وثورته / سلاف علّوش

أهم ما ميز الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين كان ثورة الشكل الجديد التي تركت لنا أسماء ومفاهيم أرست في وعينا تساؤلات عريضة، فهل أنجز هذا الشعر مهمته التاريخية في تغيير شكل الخطاب الثقافي، وفي تطوير أدوات التلقي والوعي؟ أم أنه بقي متخارجًا عن الضرورة واحتفظ بنفسه كحالة تسجيلية منفعلة لا فاعلة؟

إلى أي مدى اشتغل وأثر في أشكال الخطاب؟

لا نستطيع أن نظلم هذه التجربة ونقصيها عن دائرة الفعل متكئين على إحداثيات الواقع وما آلت إليه حالتنا الثقافية وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يمكن أن نحمّل الشعر مسؤولية النهوض بالتاريخ وتحقيق التقدم والتغيير، فإن النهوض حالة جدلية بين الإنسان والتاريخ تشتغل فيها كل الفاعليات البشرية لتتخلق عن أشكال وإبداعات وتنظيمات تتآلف مع اتساعها الروحي. لقد حاول الشعر منفردًا أن يكون حصان طروادة العصر، وشاء الخطاب السياسي والحدث أن يركب هذا الحصان في العديد من المراحل مما أوصله (الحصان) إلى إجهاد وتعب دام سنوات. ولاحظنا أن شعرنا الجديد قد وقع منذ بدايته حتى منتصف السبعينيات تحت سطوة الحلم السياسي، فاشتغل على المقولات السياسية، ولمع بعضها، وروج البعض الآخر، ونسي أحد مهامه المفصلية كحالة استشرافية تستطيع أن تقرأ من التفاصيل ملامح الكل القادم، ونسي دوره في التأسيس لحالة الرؤيا اللاغائية، وبأنه أحد أرقى أشكال تجليات الوعي والروح، وبأنه أيقونة إنسانية وكونٌ لا تحده الأيديولوجية، إلا أن بعض القامات الشعرية وعت هذا المأزق فخرجت منه واشتغلت على إعادة إنتاج تجربتها بحساسية شديدة وثقافة ووعي عاليين لتترك في المشهد الثقافي صدى مختلفًا وعلامات فارقة.

من الريف إلى المدينة

فمن مفهوم التأسيس إلى التأصيل إلى التنوير وانفتاح الذات عاش شعرنا الجديد مغامرة يحدها الفشل من جهة والتاريخ من جهة أخرى، وأكثر ما ميز هذه الموجة الجديدة هو تدافعها من الريف إلى منابر المدينة حاملة معها هذه الدهشة العالية وهذا الكم الاغترابي، ولأن معظم الشعراء الذين اشتغلوا على الجديد قادمون من أريافهم النائية باتجاه المدينة الناشئة والوليدة التي تتقاسمها آنذاك التيارات السياسية والمشارب الأيديولوجية المختلفة، وقعوا في ساحة الشعار السياسي، وكانوا خامة لينة للاستقطاب، فمعظمهم انخرط في العمل السياسي واستقال منه بعد هزيمة وزمن. وكانت تلك المرحلة من أهم المعوقات التي أخرت الشعر الجديد عن اشتغاله على مشروعه ليصل في نهايات القرن إلى ما كان يجب أن يصله في بداية مشروعه، وهنا لا نطالب الشعر بأن يكون مسلوخًا عن الواقع ومنفصلاً عنه بل نطالبه بأن يكون عضويًا فيه.

الاشتغال الفني

ونستطيع أن نشاهد على صعيد الشغل الفني تبلورًا مهمًا في التجربة، فلقد تخلص الشعر خلال الخمسين سنة الماضية من المؤثرات الغربية وخرج من دائرة الاستنساخ، ليرسم أقانيمًا خاصة به وحوامل تخصه بالذات، فمن الأسطورة الإغريقية إلى الأسطورة الشرقية إلى أسطرة الواقع، ومن الغموض المبهم إلى الغموض الدلالي الشفاف، ومن لغة مربكة تبحث عن جديدها في الترادف والبناء العلائقي إلى لغة انسيابية خطت ردائفها عبر التجربة.

وهكذا أسس الشعر الجديد لخطواته الأكثر وثوقًا وترك للأجيال الشعرية الشابة مهامًا لا نعرف إن كان زمننا الثقافي يسمح بإكمالها.

 ضمن هذه الموجة التي شغلت معظم الساحات بقي المنبر الكلاسيكي موجودًا يطرح ذاته كهوية لا بديل عنها وكحالة غير ممكنة التجاوز فسطع نجم بعض شعرائه، وأفل بعضهم الآخر، ومنهم مَن قبل الجديد وتمسك بنظام البيت، ومنهم مَن هجر البيت في أواخر عمره ليدخل في بوتقة الجديد. أما القسم الآخر فقد آثر أن يقف موقف الضد الخائف ليفند ويهاجم ويتهم، وبكافة الأحوال كانت تلك الظاهرة صحية من باب التنوع والتلون والحراك، وهذا الصراع دفع بالاثنين معًا إلى جدية أعلى في إثبات الذات.

أركان الشعر الخمسة

ولو حاولنا فهرسة الشعر الجديد من خلال التجارب المشتغلة عليه لوصلنا إلى سمات محددة على صعيد الشكل الفني اشترك فيها الجميع في عملهم من أجل شعر جديد: “الموسيقا- الصورة الشعرية- الرمز- الأسطورة- الغموض”

إن هذه العناصر الخمس من أهم أركان الشعر الجديد التي استند عليها وحاول الإخلاص لها في بدايته، ثم تجاوزتها تجارب البعض لصالح خصوصية أكثر ومفاهيم شعرية أكثر جدة ومعاصرة، وهربًا من أن تتحول هذه العناصر إلى قيد يربك النص بعد أن فلت من شكله الكلاسيكي.

قصيدةالنثر

وفي هاجس البحث عن الأكثر حرية والأكثر تطورًا نقلت رياح الغرب مرة أخرى ما سمي بقصيدة النثر، فبعد ترجمة كتاب سوزان برنار إلى العربية شهدت الساحة الأدبية نصوصًا نثرية مازال الخلاف على تسميتها قائمًا فمنهم من ينسبها إلى الشعر باعتبارها قصيدة تحمل أغلب عناصرها وتترك الموسيقا جانبًا، ومنهم من يصر على أن لا علاقة لها بالشعر -وهذا هو الأرجح- وأنها شكل من أشكال العجز الشعري، ويمكن أن تكون نثرًا جميلاً، ومازالت هذه الظاهرة التي انتشرت لم تقونن بعد ولم يشتغل بها المبضع النقدي بشكل جاد، ومازال الخلاف حولها قائمًا، ولا أعفي نفسي من هذا الخلاف، فهي الأقرب بالانتماء إلى النثر ويمكن تسميتها بأي اسم ينتمي إلى النثر إلا أنها لا يمكن أن تنتمي إلى الشعر لأنه منذ أن كان الشعر وهو الكلام الموزون المقفى، ولا يمكن الخروج عن الوزن إلا في باب النثر، فلماذا نحملها -هذه الظاهرة- أكثر مما تحتمل ونصر على إيرادها في باب الشعر الذي لا يحتمل تلك التهويمات التي تنسب إليه.    

وهذا لا يعني أن كل ما كتب في النثر ليس أدبًا، ولكننا نقول إنه ليس شعرًا وحسب، فمن يستطيع أن ينكر قاسم حداد مثلاً الذي أصبح قامة مهمة في الوطن العربي؟ إذن؛ فخلافنا هو على الاسم وليس على النوع، فقد عمل حداد على إبداعية المفردة وعلى إنجاب مفردات جديدة تخدم التجربة الأدبية بما يعطيها آفاقًا أكثر سعة واتساقًا مع الغرض الأدبي، كما أنه عمل على معالجة مواضيع غاية في الأهمية من خلال نصوصه وخرج على الخطاب الأدبي العربي الذي ينسى التفاصيل والجزئيات ويعمل على الكليات والقضايا الكبرى فقط.

إذن فالخلاف فقط حول التسمية التي يمكن أن نجد لها بديلاً، وهذا ما أظنه أهم عمل للنقد الآتي.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top