مقالات رأي

في حياة السوريين وموتهم / ماهر مسعود

image_95351_ar

من المعروف أن غريزة البقاء عند البشر تشتدُّ أثناء الأزمات والحروب، بحيث أن فقدان الأمان والشعور بالتهديد الذي تخلقه الحرب، يدفع الناس إلى التعلق أكثر بأهداب الحياة، كردة فعل طبيعية وغريزية نابذة للموت المترقِّب، والمُحلِّق في فضاءات المكان والمخيلة.

لكن هذا الوضع “الطبيعي” في علاقة الإنسان بالحياة والموت، لم يعد يبدو طبيعياً إن نظرنا وتمعَّنا في علاقة السوريين بالموت، ورأينا “قصة موتهم المُعلَن” في سوريا وباقي أنحاء العالم. بل إن علاقة السوريين مع الموت؛ وبالتالي مع الحياة، باتت تشكل، من وجهة نظرنا، ظاهرة تستحقّ التوقف مطولاً، باعتبارها ظاهرةً فريدةً وشاذّةً عن الطبيعي، وخارج النسق المُفَكَّر فيه بشرياً حتى اليوم.

ربما تقاسم السوريون حالات الهرب والهجرة واللجوء مع شعوب كثيرة أخرى سبقتهم، شعوب عاشت ما عاشوه من قسوة الحرب وويلاتها وظلمها، لكن الفارق الذي نراه جديراً بالملاحظة، هو أن المغامرات الخطرة والمجازفات المجنونة التي يضع السوريون أنفسهم بها، والتي أودت بحياة الآلاف منهم، لا تنمُّ عن رغبة بالحياة تدفع أصحابها لاجتياز المخاطر بحثاً عن حياة كريمة، بقدر ما تشير إلى استسهال صارخ بقيمتها، ورفض قهري لشروطها وأقدارها. هو استسهال ناتج عن اليأس وفقدان المعنى، وناتج عن شعور السوريين أنهم وحيدون في وحشتهم، مثلما كانوا وحيدين في ثورتهم، ووحيدين في مأساتهم، ومخذولين في عالم “معاصر” ومتفرج، عالم يتلذذ بسادية ممزوجة بالشفقة على موتهم العاري، وعريهم أمام الموت.

تبدو مجازفات السوريين أقرب للنزوع الانتحاري الجمعي الناتج عن الخذلان المديد، وأشبه بمقامرة الهارب إلى الموت وليس الهارب من الموت، بعد أن تضاءلت الفوارق بين الحياة والموت عندهم. فهم يخاطرون بكل ما لديهم، يخاطرون بأطفالهم في البحر وفي الغابات، يمضون أشبه بالكائنات المُحمَّلة حتى الرأس شعوراً بالذنب والحصر والتعب من البشرية ومن وجودهم فيها، ذنب تجاه من تركوهم خلفهم، وذنب تجاه من ماتوا، وذنب تجاه أطفالهم، وذنب تجاه الدول والمجتمعات التي ترفضهم ويهاجرون نحوها، يشعرون بثقلهم أينما حلّوا، هم من اعتادوا أن يحملوا ثقل الآخرين.

هناك تنويعة على الموت السوري لا تكف عن توليد الدهشة، ولا يكف السوريون عن الاندهاش من خفّة موتهم ذاته، هم لا يصدقون الموت، لكنهم غير مُمتنّين للحياة أيضاً، فبعد الموت بالرصاص الطائش والصواريخ الموجهة، البراميل المتفجرة والكيماوي الخانق، وبعد الموت ذبحاً وسبياً واغتصاباً وصلباً وتقطيعاً، يموت السوريون غرقاً في البحر، يموتون اختناقاً في شاحنات الأطعمة المثلّجة، يموتون افتراساً في الغابات، يموتون قهراً وغضباً من موتهم ذاته ومن استخفافهم واحتقارهم لقاتلهم، يموتون كأن الموت مهنتهم الغابرة، أو كأنهم للموت وللتاريخ تجربة عابرة.

ليس أسوأ من المصائب، سوى قسوة انعدام التعاطف ولا معنى التضحيات، لا بل الشعور بتحمل وزر المصيبة وبأنها مُستَحقة عقاباً على طلب الحرية، هذا ما يقوله العالم للسوريين. فالعالم يبدو متعاطفاً مع القاتل لا مع الضحية، لا بل هو يعمم القتلة ويساوي بينهم كي يدين الجميع ويرتاح، ويفصل ذاته ويُخلي مسؤوليته عن تلك المقتلة. ذلك هو انقلاب القيم الذي يجعل القيمة ذاتها عدماً، والحياة ذاتها بلا قيمة، فالسوري يُدان لأنه يُقتَل ولأنه لم يستطع قتل القاتل، يدان لأنه ثار، ولأنه هارب من الحرب والثورة، لكن حقيقة الإدانة تكمن في أنها تعويض عن العبء الأخلاقي والقانوني والحقوقي الذي يجب أن يتحمله العالم معنا وتجاهنا، لا لأننا من هذا العالم فقط، بل لأنهم لن يستطيعوا رمينا “كالطفل مع غسيله الوسخ” دون أن تبتَّل أيديهم وأرواحهم مستقبلاً، فترك السوريين يتفتتون أمام موتهم وضياعهم في عالم معولم ومغرق في الصورة والمعلومة والخبر، ليس مسألة تمضي على الضمير الإنساني الكلّي كشيء عادي وبلا أهمية، والسوريون لن يفنوا نتيجة هذه الحرب، بل سيمضون في محاكمة العالم على صمته تجاه المحرقة التي تعرضوا لها وحيدين وعراة، وسيولِّدون الحياة من رماد ضحاياهم، ومن تجربتهم المرَّة مع الموت والصمت.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top