ثقافة

فصول استرجاعيَّة عَن المكَانِ مُعَسْكَرًا

جوان تتر

المكانُ ما زالَ محتجَزًا داخلي، أو ربمَّا أنا المحتَجَزُ داخلَ أسوار المكانِ القديم!!، أعيشُ داخلَ تلكَ الحياةِ السحيقة وأنَا أُمارِسُ حياتي الاعتياديَّة بعد خروجي من الثكَنَةِ/المكَان.

حكايةُ الجنديّ: محمد الحسين أو (أبو رجب) هذا ما كنّا نسميه فيما بيننا نحنُ الجنود الأصدقاء، كانَ ولا يزالُ يملكُ في قلبي الأثرَ الوحيد بالإضافة إلى عددٍ من الجنود الآخرين، كنت أخدم في منطقةٍ عسكريَّة تمتاز بالحنان!! أجَل، الحنان الذي نفتقدهُ خارج الثكنةِ الأشبهِ بالسجن، ولكنَّهُ سجن جميل يغلِبُ عليه طابعُ الأخوَّة أكثر من طابع العَسكرَةِ الجافّ، لا أعلَم ما الذي حصل لكَ يا أبا رجب الآن وفي هذهِ اللحظةِ الرَّاهِنَة، كلّ ما أتذكّرُهُ أنَّك غبتَ ليالٍ عن الثكنة وعُدَتَ أقوى مِّما كنتَ عليه سابقًا وأنتَ تغنّي للأمطارِ في سهل الغاب وتبكي كلَّما رأيتَ صورَ التظاهرات في تلكلخ عبرَ التلفاز، بخفَّةٍ تقفزُ إلى سريري لتهمسَ في أُذني: لقد ذبحوا عددًا جيَّدًا من البازلاء!! أستفسرُ عن البازلَّاءِ توضيحًا لأستبينَ ابتسامتكَ في وميضِ عينكَ اليمنى تحديدًا: إنَّهُم عساكرُ، لتصمتَ وأنتَ تلتفتُ يمنةً ومن ثمَّ يسرة لتلفظ المفردةَ القميئة، عساكرُ النظام أيُّهَا الغبيّ.

حكاياتُ الجُنود : جنودٌ كُثُر فروّا من الخدمة العسكريَّة منذ بداية اندلاع الثورة في سوريا ومنهم من هَرَب إلى بلادٍ أُخرى خوفًا من اعتقالٍ أو بالأحرى هربًا مِمَّا هوَ موجودٌ في الذاكرةِ القديمة من ألَمٍ مخزَّن يخشى الفارُّ من أن يَثِبَ إلى ذهنهِ مجدَّدًا ويعيشَ هولَ الحالاتِ الماضية وما كانت تتضمَّنهُ من خوفٍ وهَلَعْ، يقولُ (ك.ج) أحد العساكر المنشقّين عن الخدمة العسكرية في جيش النظام السوريّ: كنتُ أفقُد في اليوم عشراتِ الأصدقاء، أتناولُ طعام الغداء مع مجموعةٍ من رفاق الخدمة، وعند العشاء لا أرى إلَّا نصفهم بينما النصفُ الآخر يكون إمَّا ميَّتًا أو جريحًا أو أسيرًا لا يعرفُ أحَدٌ مكانه، شيءٌ مؤلِمٌ أن تفقد أحبَّاء لكَ تكوَّنوا في أقسى الظروف، ظروفِ الخدمة العسكريَّة، أسألُهُ: إن تسنَّت لك الفرصةُ في القادِمِ من الأيَّام أن تلتقي بالأصدقاء القدامى وفي ذاتِ النقطة العسكريَّة، هل سيكونُ ذلك مدعاةً للسرورِ بالنسبة إليك؟.. تغرورَق عيناه وهو يتأمَّلُ الفراغَ بحسرَةٍ ومن ثم يتفرَّسُ في وجهي قائلاً: أجَل سيكون ذلك مدعاةً لسروري ولكن دونَمَا قتلٍ أو اعتداءٍ أو أصوات سلاح!

براثِنُ الغياب: الغيابُ حَسرَةٌ، أنينُ الجريحِ أكادُ أستبينه وألمسهُ بيديّ هاتين، أكَادُ أُبصِرُ مشهدَ الضابطِ وهو يهوي بيدهِ الثقيلَةِ على وجهِ عسكريٍّ من دير الزور لأنَّهُ رفَضَ نعتهُ بسليلِ الإرهابيين، ومن ثمّ يُدعَس بالحذاءِ العسكريّ القَذِر، يقولُ (م .ح) منشقٌّ آخَر عن جيش النظام: لا يمكنُ لشيء أن يُطهِّرَ دماغي وبأيِّ شكلٍ من الأشكال من غُبارِ ولوثَةِ هذهِ المشاهِد طالما أنَّني على قيدِ الحياة وأُتابِعُ مشهدَ الثورَةِ عبرَ أشرطة الفيديو أو على الإنترنت، ما مِن قوَّةٍ في العالَمِ قادرة على جعلي أنسى تلكَ الأيَّام وأنا في الجحيم. سيعيشُ الجنديُّ جنديًّا حتَّى وهوَ خارَجَ المكانِ المُعَسكَر طالما أنَّ الأراضي السوريَّة برمّتها أصبحت ثكناتٍ عسكريَّة موزَّعة بينَ مؤيِّدٍ ومُعارِض، لا الحياةُ داخلَ الوطن تمحي تلكَ المشاهد ولا الهروبُ يفيدُ النسيانَ بشيء، هذهِ سوريا التي “لَمْ” نحلُم بها قَطّ، وليسَت هذهِ ذكرياتنا التي وَدَدنا أن نخزِّنها داخلَ المكانِ المخصَّصِ للذكرى، الغدُ غامِضٌ، والدليلُ ضبابٌ، والرؤى قاتِمَة.

To Top