المصباح الأبيض المضاء طيلة النهار والليل يجعل من “الهنغار” المحشورين فيه مشرحة متعفنة. إنها المرة الوحيدة التي يُطفأ فيها هذا المصباح اللعين. كان بياضه الرخيص يغشي عيني، ويجعل من الدم الأحمر المتخثر في رأسي صعقات كهربائية تفتح فيه “عماء”* حليبياً ممزوجاً بأرق طويل لا ينتهي.
كنت أرقد في زاوية الهنغار. متكوّراً على نفسي، ألعق جروحي كقط فزع. هل كنت أتكئ على كتفه؟ كان بالقرب مني ولا شك.. الأجساد هنا تطوي بعضها البعض، يعجنها الانتظار الممزوج بدهشة الموت، وصدمة الألم. تتداخل الرؤوس مع الأرجل كأنها جسد مشوه خِيطت أطرافه على عجلة. تئنُّ دون أفواه، تنتفض وتتلوى مثل أسماكٍ أُلقيت في بركٍ من الرمل.
أحدق بتعبٍ في ذرات الغبار التي ولدت مع انطفاء الضوء. ترقص الذرات كما ننتفض، تدور على نفسها، ثم تتلاشى. تتوسع حدقة عيني، تلحق ذرات الغبار العشوائية، أفكر: كل ما يحدث يشبه هذا الغبار، في النهاية سنستحيل جميعنا إلى ذرات. يدي المهشمة فوق قدمي، أضمها إلى صدري. لا أستطيع تحريك عظامي. لكنني أتكئ برأسي على كتفه، وأحرك عيني متتبعاً الضوء. هذا الهنغار هو الحد الفاصل في كل شيء. هذا المكان هو المسافة التي لا نستطيع قياسها أو محوها من ذاكرتنا. أنا أبتهل. أغمض عيني وأشعر بالألم يتدفق في عروقي حتى المسامات. أُخزّن الألم في ذاكرتي، لا أريد نسيانه. أنا لن أنسى: أصابع محمود المتفجرة من صاعق الكهرباء. بول أبو عدنان الذي لعقه، انتفاخ جروحه من مرض السكري. رائحة الروح الواخزة عند خروجها من الجسد. تحلّل الذكريات والأسماء وتشوهها. تحطم الزمن ونقره كغراب يلتهم أطرافي ويطاردني في الكوابيس.
خارج الهنغار، بدأنا بسماع صراخ عال وضربات متوالية تصدر من عشرات الرجال والشباب. في بادئ الأمر اعتقدت أنها تصفية جماعية للمعتقلين، لكننا عرفنا لاحقاً أنها حملة اعتقال في مدينتي المعضمية وداريا.
كنت أسمع أصوات تكسير العظام، يتلوها صراخ الألم المفزع. الأقدام تهشّم جمجمة الرأس، وتطحن الأضلع.. تكوّرت على ذاتي غائصاً في حوض من الرعب والخوف.
كان الضوء خافتاً رمادياً ينحدر من مكان ما ويمتزج ذيله مع سواد الأجساد التي طمستها العتمة.
أنا أسقط في بئرٍ عميق. تبتلعني العتمة والخوف. أترنح على خيط رفيع بين الجنون والهستيريا. أشعر بحركة كتفه فأعود إلى الهنغار. أنظر نحوه فيلتفت إلي. يطيل التحديق ثم يبتسم ابتسامة رقيقة تبعث الدفء، يهمس إلي: “هل تعرف أن الأسلوب مسألة معقدة في الكتابة؟ وقليل من الكتاب تستطيع أن تميزهم بأسلوبهم”.
لا أعرف متى بدأ ذلك الحوار بيننا حول الكتابة والأسلوب. كيف استطعنا وسط ذلك الجحيم أن نبدأ حديثاً حول الشخصيات والروايات التي قرأناها. افترقنا كل واحد في معتقل داخل المطار وها نحن نلتقي مرة أخرى في هذه المشرحة المتعفنة.
كان الأنين يأتي من كل مكان؛ من الأجساد الممدّدة فوق بعضها البعض تتلوى من الألم، من الأجساد التي تُسحق عظامها في الخارج.. من الأجساد التي دفنت غيلة في قبور مجهولة. من صمت الوجوه المرتسم ببلاهة حين يجر كل هؤلاء الشباب إلى حتفهم دون أن يحرك أحد ساكناً. من النسيان .. النسيان الذي يقترفه كل يوم أبناء هذا البلد اللعين.
همست له: هل قرأت رواية “من قتل ليلى الحايك”؟
المرة الأولى التي التقيته فيها، كان ضمن دفعة كبيرة قادمة من مدينة داريا. كان هزيل الجسد مثلي. ابتسمت في نفسي وقلت هذا شاب آخر هزيل الجسد يرعب. هذه ثورة هزيلي الأجساد الخارقين.
كنا مشتتي التفكير. المرة الأولى التي التقيته فيها، كانت في سجن آخر من المطار. أظن أن كلينا غير ملفتين؛ أجساد هزيلة، نظرات ساهمة.. كنت أفكر حينها: لماذا السجن؟ لماذا كل هذا الألم. لماذا ثمة مكان فيه كل ذلك الرعب؟ وكنت أفكر أن من يقيم ويشرف ويعذب في هذا المكان لاشك وأنهم أكثر رعباً منا.
أجابني: “كانت هذه الرواية، واحدة من الروايات التي كنت أُدرس طلابي فيها “الأسلوب”؛ فأنت تلاحظ فور القراءة، أنها لغسان كنفاني أو ربما تتوقع ذلك. الأسلوب المحكم والمتقن الذي يخطف الأنفاس، رغم أنها رواية لم تتناول القضية الفلسطينية”.
طال التعذيب خارج الهنغار، لم نعرف عددهم بالضبط ولكنهم كانوا كثر، حاولنا سماع أي كلمة لنفهم ما يحدث. كانت أصوات ألمهم أشد قسوة من التعذيب، ربما كان الإصغاء إلى صوت الألم أحد أقسى أنواع التعذيب. في تلك اللحظات من العجز ورعب الانتظار يصبح الموت أمنية حقيقية لتوقف العبثية غير المفهومة. تبعثرت نظراتنا، وسرحنا في ذرات الضوء، ومن ثم خيّم الصمت على الهنغار. صمت قاتل يشبه صمت القبور.
عاود الالتفات إليّ مرةً أُخرى، فنظرت إليه بيأس تام وتملكتني رغبة كبيرة في البكاء. شعرت بأنني أتداعى وأن جسدي وعقلي لن يستطيعا التحمل أكثر من ذلك. أطال النظر إليّ ثم سالت دمعة على خده. مسحها بكم قميصه فافترت شفتيه عن ابتسامته الرقيقة. اقترب مني هامساً: “أحكي لك كيف أحببنا أنا وزوجتي بعضنا؟”.
ابتسمت له وانا أحاول تهدئة غول الرعب الذي ولد في معدتي، وراح يهمس في أذني قصة زواجه. كنت أنصت والصراخ يعلو أكثر. صوته يزداد دفئاً مع كل ضربة تنهال وتمزق الجلد. أبتسم وأستعيد المعنى الذي أوشكت على فقدانه وأنا أترنح على حافة الانهيار.
ها أنا أجلس الآن وأراقب البدر المعفّر بالطحين. ينحدر ضوءه فوق أسطح الأبنية التي دارت في حواريها معارك طاحنة، وتركت الأجساد فيها للتعفن. رائحة القمامة المتعفنة تنخر صدري، وتغرقني في سعال لا نهائي. هذه الرائحة ومراجعات الأمن العام المتكررة تدفعني للجنون.
أفتح الكومبيوتر ثم أشاهد خبر قصف مكتب مجلة طلعنا عالحرية. أحدّق في الصورة جيداً ثم تعود بي الذاكرة إلى مطار المزة.
يكتب أسامة على صفحته رغم القصف سنستمر في إصدار الجريدة..
لم أستطع الكتابة منذ زمن، لكنني لم أتمكن من منع نفسي من كتابة هذه الذكريات التي تشاركتها مع أسامة، ولا تكفّ عن مداهمتي كلما شارفت على فقدان صوابي، وكلما فكرت بالأيام التي جمعتنا سوية في مطار المزة العسكري.
*”عماء” التوصيف مستوحى من رواية “العمى” للكاتب البرتغالي جوزيه سرماغو
ناشط وصحافي ويعمل في صناعة الأفلام التسجيلية
حائز على عدة جوائز عن أعماله