مقالات رأي

دولة “أمّك” باقية.. بيان من مخيم اليرموك

10460752_834985806581032_6237510500018036933_n

كان صعبًا علينا نحن أبناء مخيّم اليرموك المهجّرين منه –قد تبدو عبارة مهجّرين من المخيّم غير مألوفة لك لكنّها حقيقية- أن نتابع ما يجري فيه عن بعد، هذا هو اليوم الرابع على التوالي ولم يعرف أبناء المخيّم النوم، وأبناء المخيّم هنا تعني المحاصرين فيه والمهجّرين منه على حد سواء، مع اختلاف طبيعة ظروف كلّ منهما، النوم هنا ترفٌ لا يمتلكه من جرّب خسارة بيته ذات مرّة، ويدرك تمامًا، أن سقوط المخيّم بيد الطرّفين الذين يقاتلان أبناءه يعني زوال المخيّم من خارطة الوجود، والطرفين هنا تدلّ بشكل واضح على أن الأطراف المتنازعة حسمت موقفها تجاه بعضها على حدود المخيّم، كما حسمت موقفها أيضًا تجاه المخيّم!

 

شعور العجز هذا يشبه تمامًا متابعتك لفيديو اغتصاب جماعي لشقيقتك في بلدٍ آخر، وأنتَ مصرّ على متابعة الفيديو للنهاية، علّك ترى نتيجة غير متوقّعة أو معجزةً ما.. كظهور أجنحة لشقيقتك وتحوّلها إلى تنّين يقتل كل مغتصبيها، هكذا عرفتَ نفسكَ أيها الفلسطينيّ أسطورةً متخيّلةً وهكذا زرعوا في رأسك مذ كنت طفلًا، وهكذا ستظلّ تراهن على فكّ الرصَد عنك لتنطلق وحشًا بطلًا منتصرًا! وفي هذه الحالة لن يكون هناك مجال في عقلك للتدقيق في وجوه المغتصبين أو في لباسهم أو في تفاصيل المكان وشكله لتتعرف عليهم، انسف هذا الخيار من تفكيرك تمامًا.

 

شيءٌ من النكران ما نعيشه الآن كآخر ما نملك من ميكانيزمات الدّفاع عن هذه الأسطورة، مازال أبناء المخيّم إلى هذه اللحظة يعيدون نشر مقاطع من قصائد درويش، وأغاني الثورة الفلسطينيّة، ويصنعون مقارنات بين صمود المخيّمات الفلسطينيّة وصمود اليرموك -كما فعلت(1)- بلحظة ما كنت أفكّر أن أفعل شيئًا جديدًا ضدّ عجزي، فخطر في بالي -بعد أربعة أيّام من استيلاء تنظيم داعش على بيتنا في المخيّم- أن أتصل برقم هاتفنا لأغرق في خيالي راسمًا بطولة وهميّة عن قوّتي في شتم من رفع السمّاعة من التنظيم وإطلاق عدد كبير من (الكفريّات) أيضًا، هذه الحاجة إلى التفريغ وإن كان وهميّا أو افتراضيًّا، الآن تمامًا أشعر بدقّة بشعور من أطلق لقب “حسن زمّيرة” على حسن نصر الله، والآن أدرك أن انتقاداتنا النخبوية لجدوى ردّة الفعل غير العقلانيّة هذه كانت مجرّد “علاك” كما يقال باللهجة السورية.

 

بالعودة إلى العجز، فإن هذا العجز يختفي تمامًا حين ترى صورة لجدار في مخيّم اليرموك كتب عليها “دولة الإسلام باقية” الشعار التقليدي لداعش وقد شطب أحد شباب المخيّم كلمة الإسلام من على الجدار وتركها واضحة بعض الشيء وكتب فوقها “أمّك”……… دولة أمّك باقية!

هذه ليست كتلك، بالتأكيد ردّة الفعل هنا تختلف عن قضيّة “حسن زمّيرة” ولو أنّها تدور في فلكها السيكولوجي، إلّا أنها هنا أكثر قدرة على التحدّي والمواجهة، أكثر قدرة على التأثير في المتهكَّم منه، وأعمق من حيث بنيتها في تجاوز تابوهات عديدة، أهمّها أن من شطب كلمة “الإسلام” لم يُدِرْ بالًا لتكفيره من المراقبين المنتظرين والعاملين كشرطة إلهيّة متنقّلة، وأعمق من فكرة الذكوريّة والشتيمة في الأم التي لن تعجب الكثيرين من النسويّين والنسويّات الجدد، فهنا تعدّت العبارة مفهوم الشتيمة تمامًا إذ كان بإمكانه ألّا يشطب شيئًا أو أن يضيف كلمة قبل أو بعد العبارة الأصلية، أو أن يضيف شتيمة كاملة للعبارة، إلا أن هذا التعديل كان أذكى من كل الاحتمالات الأخرى ومكثّفًا أيضًا، وعلى صعيدٍ آخر، يعيدنا إلى بدايات الثورة والكتابة على الجدران وردود فعل المواطنين على شعارات مثل “الأسد أو نحرق البلد” الشعار التقليدي لشبيحة النظام السوري الذي من الممكن أن يكون مخفّفًا مرّات ويصبح “الأسد أو لا أحد” ويمكن أن يكون مستشيطًا أيضًا فيصبح “ربّك بيسقط وبشار ما بيسقط”، في إحدى المناطق السورية –وهي حادثة موثّقة- كتب أحد الشبّان على جدار بخط كبير جدًا “يسقط بائع الجولان” في رمزيّة سياسيّة ثوريّة واضحة تختصر خطابًا سياسيًّا كاملًا، وحين اقتحم الأمن المدينة رأوا ما كُتب على  الجدار، ولم يكن بإمكانهم شطبها، فقام أحد أذكيائهم بكتابة (لن) قبل العبارة .. “لن يسقط بائع الجولان”

في المقارنة بين الحالتين، تستطيع أن تميّز عدّة أنواع من الاختلافات، أوّلها الوعي والمعرفة بما يفعل الأول على عكس الثاني، وفي الإيمان بالقضية لا بالاستسهال والفعل (كرفع عتب) كما فعل صاحب “لن”، وبالقوّة حيث أن الأول كان تحت ضغط اقتحام واحتلال لمخيّمه والثاني كان في مركز قوّة وهو صاحب السلاح والسلطة والسيطرة.

 

إذا سقط المخيّم اليوم، خاصّة وأنه في هذه اللحظات يتلقّى البراميل المتفجّرة من طيران النظام السوري، سيذكر التاريخ، وسيعمل من ظلّ حيًّا من أبنائه وبكامل عقله على نقل ما جرى للعالم، عشرون ألف مدنيّ محاصر منذ عامين من النظام الذي يدّعي حمايتهم، مات قبلهم الكثير جوعًا وتعذيبًا وقنصًا وقصفًا، دخل عليهم تنظيم داعش وجبهة النصرة وقطعوا رؤوس شبّانهم وخطفوا بناتهم، وأكمل الطيران الحربي المهمة بالقصف بالبراميل المتفجرة بعد الصواريخ والقذائف، سيذكر التاريخ، أن بضعة شبّان من مخيم اليرموك قاوموا كل هذه الجيوش والأسلحة دفاعًا عن مخيّمهم وأسقطوا دولة “أمّه” الباقية ولم يسقط المخيم، بل مسح عن وجه الأرض!

 

4-4-2015

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top