مقالات رأي

داعش رأس الإسلام السياسيّ المقطوع / ربيع الشريطي

05c1c8b804fcf00232dcae018be17b84

يظنُّ بعض المثقفين أن داعش خُلقت من العدم، أو هي نتيجةٌ لمؤامرةٍ كونيّة على المنطقة؛ فمرةً يقولون إن النظام الإيراني خلقها وموّلها، ومرة أخرى يقولون إن شبكة المخابرات العالمية شاركت بصنعها وتمويلها، وهذا مردّه إلى أن العقل المكوَّن لدينا اعتاد أن يضع المشكلة خارجه، ومن ثمة إلقاء المسؤولية عن عاتقه.

ولكن إنْ كنّا مسؤولين حقيقة ومعنيّين بفهم ظاهرة داعش وأخواتها، علينا أن نحدد المشكلة في كينونتها، فحلم داعش بالخلافة الإسلامية ما هو إلا تثبيتٌ للحظة كان فيها للإسلام رأسٌ سياسيٌّ قبل أن يقطعه القوميون والعلمانيون والعسكر؛ ففي 13 كانون الثاني عام 1954 أصدر جمال عبد الناصر حكماً بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين وحظر نشاطها؛ حيث لوحق التنظيم قضائياً وسُجن عددٌ كبير منهم وصدرت أحكام بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة والإعدام، واعتُقِد في حينه أن عبد الناصر تمكن من الإسلاميين وفكك مشروعهم، إلا أنهم في عام 2012 انتُخبوا ديمقراطياً ونجحوا، وهذا مؤشرٌ على أن عبد الناصر أصَّلهم أكثر فأكثر في المجتمع المصري عندما قام بضربهم وقمعهم.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، تابع النظام السوري المسلسل نفسه، فاجتاح حماة وأصدر قانون 49 الذي ينص على إعدام المنتمين لحزب الإخوان المسلمين، وكان للنظام السوري  منهجٌ خاصٌّ في التعامل مع الإسلاميين، حيث قطع رأسهم سياسياً وعمّقهم وأصلهم أيديولوجياً في المجتمع عن طريق المناهج وبناء الجوامع ومراكز تحفيظ القرآن على حساب المظاهر الثقافية من مسرح وسينما وغيرها، فحبل الإسلام أيديولوجياً وعقم سياسياً.

وفي الجزائر عام 1990 أُجريت انتخابات للبلديات، وفازت فيها جبهة الإنقاذ فوزاً كاسحاً، إلا أن الحكومة في السنة التي تلتها غيّرت قانون الانتخابات ومنعت الدعاية داخل المساجد، وعلى الرغم من ذلك فازت جبهة الإنقاذ من جديد ب 188 مقعداً من أصل 380 مقعداً، إلا أن هذه النتيجة لم تعجب العلمانيين، فلجؤوا إلى الجيش الذي أعلن حالة الطوارئ، فاستقال الشاذلي بن جديد وكوّن العسكر مجلساً استشارياً بديلاً من السلطة الشرعية، وبعدها غرقت الجزائر في حمّامٍ من الدم.

وهذا شبيهٌ بما حدث في مصر بعد أن انقضَّ السيسي (العسكر) على سلطة الإخوان المنتخبة ديمقراطياً، علماً أن الإخوان المسلمين في مصر كانوا سيسقطون في ثورةٍ شعبيةٍ تطيح بهم وإلى لأبد. إلا أن السيسي ضربهم عسكرياً ومن ثمة هذا ما سيعمقهم فكرياً و أيديولوجياً ويزيد في رصيد مظلوميتهم والتعاطف معهم.

إن هذا العرض التاريخي ليست غايته استحضار التاريخ أو استذكاره، بل هو تبيانٌ لطريقة تعامل السلطات (العلمانية) مع الإسلام السياسي في المنطقة ككل، وأيضاً هو بابٌ يفتح تقييماً لهذا التعامل الذي أدى إلى انتقال الإسلام السياسي من السياسة؛ بديلة العنف، إلى العسكرة؛ ممنهجة العنف، إلى التطرف الذي يتمدد كالنار في الهشيم. فداعش هي ابنة الإسلام السياسي في الدرجة الأولى، هذا الإسلام الذي لو دخل معترك السياسة والحكم لتشذّب واعتدل أو سقط سقوطاً مدوّياً وبلا رجعة. فلقد كان أمام هذا الإسلام السياسي عقباتٌ كثيرة كفيلة بإعادة صياغته وكسر جموده وستجعله رغماً عنه يتعاطى مع الواقع بدلاً من الغيبيات، وسيدخل مرغماً في العصر الجديد واستحقاقاته وما فيه من انفتاحٍ وتغيّرٍ لا يقبل الجمود والفكر الغيبي والمطلق. فالإسلام السياسي كان أمام خيارين؛ إما أن يستجيب للعصر ومتطلباته واستحقاقاته وهذا يؤدي بالضرورة إلى تغيّر طبيعته، أو يسقط شعبياً دون أن يظهر بمظهر الضحية والمظلوم. ولكنّ القوميين والعلمانيين والعسكر أبَوا إلا أن يجعلوه بعبعاً وفزاعة ويكسبوه في الوقت ذاته مظلومية ورصيداً ويحولوه من السياسة إلى التطرف، وهذا على ما يبدو مفيداً لهم لا بل أكثر من ذلك، اتبعوه إستراتيجية لهم لأن هذا يعطيهم شرعية ويبرر انغلاقهم ودمويّتهم ورفضهم للآخر وتمسكهم بكراسيهم وقتلهم لشعوبهم بحجة أنهم وشعوبهم مهددون بالتطرف والإرهاب.

حقيقة  هذه هي المعادلة التي ساهمت في صناعة داعش وأخواتها، واليوم التحالف الدولي يترك الأسباب التي تفرّخ الإرهاب المتمثلة بالأنظمة الديكتاتورية ويتجه لضرب أحد مظاهره وهي داعش، مع العلم أن أمريكا فشلت في القضاء على هذه التنظيمات منذ حربها على أفغانستان، بل أكثر من ذلك زادت من تطرفها وامتدادها وعددها وتجذرها. والآن وإن نجحت في القضاء على داعش عسكرياً وهذا مشكوك به أيضاً لن تستطيع أن تقضي على فكرة التطرف وتمدده، لأن أسبابه باقيةٌ وتتجلى في الأنظمة الديكتاتورية العسكرية مفرخة الإرهاب الضروري لبقائها، ولن تجفَّ منابع الإرهاب إلا بخلق مشروعٍ بديل مضادٍّ للمشروع الداعشي أو الخميني أو البعثي؛ مشروعٍ يقوم على تفكيك أفكار ومعتقدات هذه التجارب وإعادة رأس الإسلام السياسي المقطوع في جوٍّ ديمقراطيٍّ، وإذا كان لا بد من قطعه فليقطع ديمقراطياً وشعبياً لا عسكرياً، وإلا فالتطرف باقٍ ويتمدد.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top