مقالات رأي

ثورة السوري ووجوده الأصيل

نوار عقل

ليست الكتابة بلغة فلسفية عن الشأن السوري إلا محاولة لمقاربة البعد الدلالي السحيق، لثورة أصيلة في عمقها، مازالت تسطّر تاريخها في وجه العالم، وعلى خيط رفيع بات يفصل بين الحياة والموت أو بين الوجود والعدم تشقُّ دربها. لذلك فإن الكتابة عن الثورة والشعب السوري كانبثاق لـــــ “وجود أصيل” هو تأكيد على عمق الثورة من جهة، وعلى حتمية انتصارها من جهة أخرى.

يميز الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر بين نوعين من الوجود، الوجود الأصيل، والوجود الزائف أو المبتذل. ويرتبط كل نوع من الوجودين بمفاهيم عميقة تعبر عن صلة مختلفة بالعالم. ذلك أن الوجود الزائف يعبر عن ميل عام لدى الناس بالفرار من العدم الماثل في صميم الوجود، مبتعدين عن أية محاولة تقودهم الى البحث عن معنى أصيل أو البحث عن ماهيتهم الحقيقية، وذلك بالسقوط بين الناس في الحياة اليومية الزائفة، تقودهم التفاصيل والأحداث إلى اللغو والثرثرة. فالسقوط هو الهروب من القلق والعزلة. وما القلق إلا حالة الخوف المطلق أمام العراء المطلق.

فالوجود المفعم بالقلق الوجودي هو الوجود الأصيل عند هيدغر، وأفراد قلائل هم الذين يختارونه، وهذا يعني قبولهم معايشة القلق، وذلك بهدف تأكيد ذواتهم وتأكيد تفردهم كأفراد يسعون لمعرفة حقيقتهم ومعرفة معنى وجودهم الخاص، وسيكشف لهم (القلق)، لا معقولية الوجود، وأن الحياة لا معنى لها، ولكن مع الاستمرار بها فالإنسان هو الذي يمنح الحياة معناها والوجود معقوليته، والقلق بهذا المعنى يدفع الإنسان إلى البحث عن ماهيته الحقيقية المحتجبة، وهو في الفلسفة الوجودية صانع لنفسه عبر ذاته، وأن يكون الإنسان هو ذاته فهذه صفة من صفات الوجود الأصيل، غير أن الذات لا يمكن أن تكون هي نفسها إلا اذا تمتعت بالحرية.

ضمن دلالات هذا المعنى الفلسفي، يخوض السوري غمار ثورته، ويتجلى البعد الحقيقي لقراره الخطير إزاء وجوده وحريته.

كما أن القلق والبحث عن الأصالة، ليس إلا نتاج وعي تشكل وتفتح تدريجياً داخل العالم وعنه، لحظة يصل الكائن فيها حد الشعور بالانفصال وعدم الانتماء للمكان أو الزمان، حيث الصدفة زرعته وألقت به مندهشاً. إن قلقاً وجودياً يعتري كل سوري حر، فيعيش تجربة العدم، بمعناها الفلسفي الأنطولوجي داخل نفسه، وأمام العالم، فيعود لنفسه، يستشعر هذا النقص الفظيع بالحرية والإرادة، ويكون وجهاً لوجه أمام فكرة العدم.

تلك هي حال شعب كامل، وأي فلسفة للوجود أكبر من صرخة الوجود التي أطلقها السوري في شعاره “الموت ولا المذلة”، ضد كل الزيف والابتذال وضد كل المحاولات، والإصرار، على تعيين وجود السوريين حسب مقياس الثرثرة واللغو، وتحديدهم بها.

يعبر الشعب السوري في ثورته عن أغنى وأعمق معاني الوجود، حيث يعيش السوريون على هاوية مفزعة وقلق حد العدم، ملقين في العالم منفصلين عن كل ما عداهم وحيدين عن سواهم لا يجمعهم مع الإنسانية من صفات سوى التفرج. لكن المتفرج المترقب لموته المتأني المحتوم، والناظر إلى مصيره القادم بكل عبث الفاجعة وسخطها، دون أي أمل في الخلاص، يقلب المسألة ليضع الآخر المتفرج في حالة سقوط أخلاقي وأنطولوجي، في حالة وجود زائف مبتذل. فحين يسقط الطفل السوري في العالم وحيداً مضرجاً بعذاباته، يسقط العالم معه، يلفظه البحر الذي أثقله الحمل عن كاهله، ليرى العالم مرآة نفسه مجلوة، ويرى انعكاس صورته على جسده الغض ونفسه المخنوق. شيء واحد قد تخلص السوريون منه، الدهشة، فالدهشة تفقد أصليتها أمام التعود والتكرار، ليحل محلها شعور عميق بالعدمية تجاه كل شيء في العالم، وتجاه كل المفاهيم الإنسانية أو الإلهية. فالسوري الذي يعيش قلقه يعرف تماماً كيف يكون كل شيء صامت أمام صرخته، وكيف يغدو كل صخب خواء أمام سكونه وصمته العتيق، ويدرك تماماً انفصاله الفظيع وغربته عن المكان وعن الزمان، مكانه وزمانه، حيث الهوة تشد حبل الفراغ السحيق بينه وبين العالم من حوله، حيث الصدفة دفعت به ليخوض تجربته الخاصة والفريدة في الحرية والكرامة مؤرخاً لوجوده الأصيل.

في زمان التقنية وثورة المعلومات والخبر السريع، زمن (التواصل الاجتماعي)، عصر الصورة والسينما، وحقوق الانسان والعدالة والديمقراطية، عصر اكتشاف الفضاء السحيق من حولنا، يعيش السوري عزلته عن الزمان.

في مكانٍ، حيث السماء تحاصره بكل أشكال الموت، نحراً وحرقاً، وتشظياً أو خنقاً. في بلد حوله، (بلاد العرب أوطاني)، ينفصل السوري عن الوطن لأن الوطن للقاتل وليس لأهله.

إن القلق كشعور أصيل يرافق السوري الباحث عن الحرية وعن معنى أصيلٍ للوجود، يتجلى بعمق الرفض واليأس والازدراء لكل العالم المتفرج على مذبحته، حيث يلج السوري قدره ويشق دربه مطمئناً للعدم، مزهواً بدمه القاني، مترفقاً بنفسه المقطوع، صوب الخلاص والحرية والأصالة.

To Top