مقالات رأي

ثقافتنا المريضة برفض النقد

لوحة للفنان عامر الزعبي - المصدر: إنترنت

لوحة للفنان عامر الزعبي – المصدر: إنترنت

يوسف المنجد

ثمة أوهام مترسبة في قعر ثقافتنا العربية والإسلامية تجعلنا نتخذ موقفاً مسبقاً سلبياً من النقد بشكل عام بصرف النظر عن مصدره ومحتواه. مضمون هذا الموقف هو الشك والريبة والاتهام، دون أن نكلف أنفسنا عناء اختبار ما إن كان النقد جاداً رصيناً متماسكاً، أو مغرضاً متهافتاً. فكل نقد هو تشويه، وكل نقد هو هدام، وكل نقد لا شك أن الأعداء يقفون وراءه، وحتى إن كان مصدره داخلياً وموثوقاً فهو مرفوض أيضاً، لأنه يُظهر نقاط الضعف للأعداء، أو يزعزع ثقة الأصدقاء والأتباع! وهو عيب ثقافي تدفع أمتنا ثمنه منذ قرون، ولا تزال.

من هذه الأوهام وهم الاستهداف الخارجي أو المؤامرة، ووهم الكمال والاكتفاء الحضاري.

فالوهم الأول (الاستهداف الخارجي أو المؤامرة) يزرع في نفوسنا التوجس والنفور تجاه كل رأي يحاول أن يمسّ ثقافتنا من قريب أو بعيد، بقليل أو كثير، سواء كانت جهة وروده داخلية أم خارجية، ويجعلنا نتخذ وضعية دفاعية، أي أننا ندير ظهرنا لثقافتنا ونتوجه بأبصارنا وعواطفنا -ولا أقول بعقولنا- نحو ما نظنه مصدر تهديد، فلا نعود نرى عيوبنا ومشكلاتنا، لأنها تصبح خارج نطاق رؤيتنا، ولأن اهتمامنا يتركز على كيفية ردّ ما نتوهّم أنه عدوان يستهدفها. فهذا الوهم يجعل طاقاتنا الفكرية موجهة نحو الخارج ومشتتة في كل اتجاه، ويعمينا في الوقت نفسه عن عيوبنا الداخلية التي لا تكفّ تتفاقم وتتراكم دون أن نشعر بذلك، أو نشعر ولكننا نستخف ونتهاون. واعتدنا في ظلّ هذا الوهم أن نعزو كل مشكلة وكل فشل وكل تردٍّ وكل تخلّف إلى ذلك الاستهداف الخارجي، دون أن يخطر في بالنا أن نعود إلى أنفسنا ونفتّش خلالها عن مكامن الخلل الذي لا يبرحنا، مع أن الله تعالى يخاطبنا في كل حين: (قل هو من عند أنفسكم)، (وما أصابك من مصيبة فمن نفسك).

وبالطبع لا نريد هنا أن ننفي وجود استهداف أو مؤامرة، فذلك محض سذاجة لا يقع فيها إلا من أعماه بريق حضارة الآخر، وشغله هيامه بها عن الشعور بذلك، فالمؤامرة موجودة وهي من طبائع الأشياء، فالأعداء إن لم يتآمروا لن يبقوا أعداء بل سيتحولون إلى أصدقاء. ولكن جل ما نريد قوله هو أن مرضنا بالمؤامرة هو بحد ذاته وقوع في فخ المؤامرة، أي أننا باستغراقنا أنفسنا وطاقاتنا في صدّ المؤامرة، نقع فيما يراد لنا الوقوع فيه: (وهم الاستهداف الدائم)، حتى يستمرّ عَمَانَا عن جذور مشكلاتنا الحقيقية الثاوية في نفوسنا، ونستنزف بالتالي طاقاتنا في الهباء، بدلاً من أن نستثمرها فيما يزيدنا قوة ومناعة تجعل المؤامرات تفشل وترتدّ إلى صانعيها. وهذا من أكبر المؤامرات.

أما الوهم الثاني (الكمال أو الاكتفاء الحضاري) فقد تسرّب إلينا من استشعارنا التماهي مع ديننا، حتى بتنا نعتقد أننا نحن هو وهو نحن، وأن ثقافتنا هي هو، وهو ثقافتنا. وبما أنه دين الله، ومن صفات الله الكمال، وبما أن الله قد أكمل هذا الدين وكمّله (اليوم أكملت لكم دينكم) فقد سحبنا هذا الكمال إلى ذواتنا وثقافتنا متوهمين أن لنا ولها ما لله ودينه من كمال.

ولا شكّ أن من يعتقد بنفسه الكمال، سيرفض ويتصدى لكل نقد أو حتى محاولة نقد، على اعتبار أن النقد يتضمن اتهاماً بالنقص أو الخطأ، وهي عيوب يتنزّه عنها الكاملون، فنحن -بحسب هذا الوهم- الذين يحق لنا نقد الآخرين، وإرشادهم إلى عيوبهم، ونحن النموذج الذي يجب على الآخرين أن يتطابقوا معه ليضمنوا لأنفسهم الاستقامة والصواب والنجاة. فنحن مُلّاك الحقيقة المطلقة والوحيدة والكاملة التي لا يتسرّب إليها أدنى شكّ، وما عليه غيرنا خليط من الحق والباطل، أو باطل محض لا خير فيه قطّ. لذلك فنحن في غنى تام واكتفاء مطلق، ولا حاجة لنا فيما لدى الآخرين من فكر نسترشد به في بناء نهضتنا والتخلص من مشكلاتنا. هذا في حين أن الحقيقة المطلقة هي ملك لله تعالى وحده، وأن ما يحياه البشر (ونحن منهم) إن هو إلا تفسيرات وتصورات قد تدنو من الحقيقة، وقد تبتعد عنها، ولكنها مهما بلغت من العمق فلا يمكنها أن تحيط بها أو أن تستحوذ عليها أو تحتكرها؛ فالحقيقة عصيَّة على الاختزال في فهم بشري ضيّق، فهي نبع يمتح منه كل البشر كلٌّ على قدر صفائه وشفافيته، وتبقى الحقيقة هي هي دون أن تنقص أو تتأثر (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) و(كلّ ابن آدم خطاء) كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

عقدة النرجسية الثقافية هذه تتركز في صلب أزمتنا الفكرية، وفي أساس مشكلتنا الحضارية، وما لم نتعاف منها ونسترد بشريتنا الطبيعية أي ننظر لأنفسنا بأننا (بشر ممن خلق) بلا أي استثناءات أو امتيازات، فلا أمل في نهضة أو تقدم.

إذاً، التخلص من ثقافة رفض النقد، أو التعافي من مرض الوسواس القهري منه وضدّه، هو شرط تأسيسي لأي انطلاقة حضارية، ليس ذلك فحسب، بل لا بدّ من نشوء حركة تربوية ثقافية نشطة تستهدف بناء عقل نقدي ذاتي، بمعنى أنه لا يكفي أن نتحول من رفض النقد إلى تقبله، فهذا الأمر على الرغم من أهميته القصوى، يبقى سلوكاً سلبياً لأنه يرتهن إلى نشاط خارجي أو غيري، أما العقل النقدي الذاتي، فهو نشاط إيجابي يشمل النقد الغيري، والذاتي معاً، أي أنه لا يكتفي بالاستفادة من النقد البراني، بل ينهض هو بعملية نقد جوانية، تستهدف الحفر حول جذور المشكلات، والتنقيب عن مصادر المعوقات التي تعوق نهضتنا وتحول دون مشاركتنا في بناء الحضارة الإنسانية.

To Top