كان يوماً عادياً كغيره من أيام الصيف الحارقة. ارتفاع درجات الحرارة يجبر أهالي مدينة القامشلي -أقصى شمال سوريا- على التبضع والتحرك في ساعات الصباح الباكرة، للانتهاء من أعمالهم قبل حلول منتصف النهار حيث ترتفع درجات الحرارة لتتجاوز الأربعين.
لكن حدثاً واحداً غير يومها كل شيء؛ ففي صبيحة الجمعة 27 من شهر تموز/يوليو الماضي، وعند الساعة التاسعة والربع، وقع انفجار مزدوج أودى بحياة أكثر من 50 مدنياً، وخلف أكثر من 140 جريحاً من أهالي المدينة ذات الغالبية الكردية.
جثث تناثرت على الطريق المؤدي من ساحة أوصمان صبري إلى مركز المدينة. وعلِق العشرات تحت الأنقاض لساعات طويلة، خراب كبير ودماء تنزف وأصوات أنين الجرحى تزيد المكان خوفاً ووحشة.
وتبنى تنظيم “الدولة الإسلامية” الانفجار، وقال في بيان نشرته ذراعه الإعلامية “وكالة أعماق” إن: “انغماسياً فجر نفسه بشاحنة مفخخة بتجمع مقرات للوحدات الكردية تضم هيئات الدفاع والداخلية والعلاقات العامة والتجنيد بالقامشلي. وقتل أكثر من مئة شخص وجرح العشرات”.
البحث عن الأحبة
يومها قصد الخال أبو ولات صيدلية الدكتور جوهر إسماعيل، الكائنة بالقرب من جامع قاسمو. وشاءت الأقدار أن يتأخر قليلاً، حيث كان يفترض وصوله في تمام الساعة التاسعة صباحاً ليكون أول الزائرين.
فالصيدلي جوهر يعطيه دواءه مجاناً دون أن يتقاضى أجراً. فحالة الخال المادية لا تسمح أن يشتري الدواء أربع مرات في الشهر. وهو يعاني من مرض عضال يتطلب الالتزام بالدواء، وتجديده مرة كل أسبوع.
كان الصيدلاني جوهر يقول له ممازحا: “مهما حييت سأعطيك الدواء مجاناً لوجه الله. بعد مماتي ادعو لي أن يغفر الله عني ويمسح ذنوبي”.
عندما وصل الخال إلى بداية الطريق العام، لاحظ أمراً مريعاً قد حصل، وصفه قائلاً: “كأنه يوم الحشر، كأن الناس ماتت لتُبعث من جديد ليوم القيامة. عشرات الجثث على الأرض. المئات من المصابين يتراكضون بخطوات مغلفة بأنين جراحهم، يبحثون عن أحبتهم بين ركام المنازل والدخان المتصاعد”.
سارع الخال إلى صيدلية الدكتور جوهر وهو يدعو في قرارة نفسه أن يكون هو الآخر تأخر اليوم، فالجمعة يوم عطلة، ولكن كعادته يذهب لفتح صيدليته ليوزع الدواء على المحتاجين والفقراء.
عندما وصل إلى نقطة الانفجار. كان المشهد صادماً له؛ فالصيدلية أصبحت ركاماً يتصاعد منها الدخان الأسود والغبار. ولم يتبقَ منها سوى الأطلال والأنقاض. لم يتمالك نفسه وبدأ بالبكاء كالطفل الصغير، وإذ بإحدى اللواتي كنّ في مكان الانفجار تقول له: “طول بالك يا خالي. قضاء الله وقدره”، فرد عليها الخال: “هل الدكتور جوهر كان في الصيدلية”، فتجاوبه المرأة: “نعم”، نزلت الكلمة على مسمعه كالصاعقة، ولم يصدق للوهلة الأولى، سألها مرة ثانية وثالثة وهو يتابع بكاءه.
استغربت المرأة شدة بكائه واستفسرت إن كان يعرف الدكتور، فأجابها أبو ولات: “أنا من يعرفه، ويعرف يده البيضاء التي كانت ممدودة للمحتاجين والفقراء.. قالها لي إذا متُّ ادعو لي بالرحمة”، فترد عليه المرأة بلهجة حزينة بأنها زوجة الصيدلي جوهر، وأم أولاده: جين ذات الست سنوات، ومحمد ذي الأربع سنوات!
عرس كبير
إبراهيم فرمان، والذي رفض مغادرة مدينته القامشلي بعد أن قررت عائلته الهجرة إلى سويسرا. فهو يحب مدينته وحبيبته أفين الموجودة فيها، وقرر أخيراً أن يخطبها ويتزوجها ليتمسك أكثر بالبقاء في مسقط رأسه.
لم يتبقَ سوى 48 ساعة على حفلة الزفاف. الأمر الذي دفع إبراهيم إلى توزيع بطاقات عرسه بيديه. واعتبر أنه من الواجب أن يدعو شخصياً من تبقوا بين أصدقائه ورفاق دراسته، بعد أن هجر المدينة القسم الأكبر منهم، ورحلوا إلى بلدان اللجوء، جراء الظروف المعيشية القاسية التي فرضتها ظروف الحرب.
شيرين أخت إبراهيم قدمت له النصيحة والمشورة بأن لا يقيم حفلاً ويكلف نفسه كل هذه المصاريف. فلم يتبقَ من أصدقائه سوى قلة قليلة يُعَدون على أصابع اليد، وقالت له: “يا أخي ما في داعي لحفلة ومعازيم وكروت، كل من تبقى من أصدقائك لا يتجاوزن العشرة، وحتى أقرباءنا لم يتبقَ منهم غير عائلتين أو ثلاثة، نقيم الحفل في منزلنا وصلى الله وبارك”.
بيد أن إبراهيم أصرّ أن يجهز للعرس وكأن شيئاً لم يحدث. يومها قرر أن يخرج باكراً. فمهمة توزيع بطاقات الدعوة ليست بالسهلة. والعرس لم يتبقَ عليه سوى 48 ساعة. وعليه أن لا ينسى أحداً من معارفه. حتى ممن تعرف عليهم حديثاً. كتب أسماءهم في قائمة المدعوين علّه ينسى بحضورهم وحشة فراق أصدقائه وأهله.
شاءت الأقدار أن يكون أحد المدعوين يسكن بالقرب من مكان الانفجار. وبعد وصوله بدقائق، حدث الانفجار. تناثرت بطاقات عرسه في مكان التفجير وتلونت بالدم والسواد.
وتابعت شيرين حديثها لتقول: “قبل الحادثة بيوم اشترى بدلةً رسمية لونها أسود وقميصاً أبيض. لكنه زف بكفن أبيض إلى مثواه الأخير!”.
واختتمت شيرين تقول: “نعم حضر كل أهالي مدينة القامشلي عرس أخي. هذا ما كان يحلم به. ستبقى يا أخي هنا بالقامشلي ولن تغادرها بعد اليوم”.
يذكر أخيراً أنّ الانفجار وقع بالقرب من جامع قاسمو، والأخير له دلالة رمزية لدى نشطاء ومعارضي المدينة الحدودية مع تركيا. حيث كان نقطة تمركز انطلاقة المظاهرات المناوئة لنظام الحكم في سوريا منذ بداية شهر آذار /مارس سنة 2011. ومن أمام بوابته كان يخرج آلاف المنتفضين وتتعالى أصواتهم المطالبة بإسقاط النظام الدكتاتوري.
صحفي سوري، عمل مراسلاً لعدة وكالات دولية وكتب في صحف عربية وغربية ومواقع سورية.