مجلة طلعنا عالحرية

“بريد اللّيل” رواية الرّسائل المتعالقة والمصائر المتشابهة

ياسمين نهار

تعدّ رواية بريد اللّيل من الرّوايات التي نجحت في تسليط الضّوء على المصير الإنسانيّ في بلادنا العربيّة، من خلال عرضها لقصص أشخاص غادروا بلاد المآسي اليوميّةّ، والأرض المُتعَبة من الحروب والاستبداد والفقر.

الكاتبة اللبنانية هدى بركات

الرّواية للكاتبة اللبنانية هدى بركات، وقد صدرت عن دار الآداب عام 2018، وحصلت على جائزة “بوكر” العربيّة عام 2019.
ومن اللّافت للنظر أنّ جماليّة الرّواية تبدأ من العنوان بوصفه عتبة أولى للنّصّ، وغير خافٍ علينا ما يتضمّنه هذا التركيب الإضافيّ من عناصر تحفيز للمتلقي ليعرف ماهية هذا البريد، وسبب تحديده بكلمة “اللّيل”
تُقسم الرّواية إلى ثلاثة فصول جاء الفصل الأوّل تحت عنوان “خلف النّافذة” وتدلّ هذه العتبة على رمزيّة عالية بما تشير إليه من دلالات التّرقّب والانتظار، وقد استخدمت الكاتبة في هذا الفصل تقنية الرّسائل المُرسلة من خمسة أشخاص مختلفين، كلّ رسالة بعد الرّسالة الأولى كانت دافعاً للشّخصيّة التّالية لكتابة رسالتها.
ولد كاتب الرّسالة الأولى وفي فمه ملعقة من العَوَز، ولأنّه أذكى أخوته أرسلته أمّه وهو في الثّامنة أو التّاسعة إلى بيت عمّه في العاصمة ليتعلّم، وكان لهذا الفطام النّفسيّ أثرٌ كبيرٌ على حياته وسلوكه؛ فبدا من خلال رسالة كتبها إلى حبيبته قلقاً متقلّباً عدوانيّاً، يتعاطى المخدرات في بلاد هاجر إليها ولم يلقَ فيها إلّا الوحشة والإفلاس.
بسبب الفقر والحاجة عمل في البلد الذي هاجر إليه عند عسكريّ انقلابيّ “فتح جريدة ليعلّم الخليقة أصول الدّيموقراطيّة” بعد أن سرق ثروات بلاده. إلّا أنّ عمل هذا الشّاب لم يدم طويلاً لأنّه طُرد من العمل هو وزملاؤه الكتّاب دون سابق إنذار، ورغم أنّه حلّق بعيداً عن أقفاص بلاده ظلّت الأسلاك تحاصره، وعيون أجهزة المخابرات تراقبه بعد أن جاء تصنيفه معارضاً إثر ترجمته لمقال.
وتجدر الإشارة هنا إلى وقوع رسالة الرّجل غير المكتملة بيد امرأة عربيّة وجدتها في دليل الفندق، وسرعان ما بدأت بكتابة رسالة إلى رجل تنتظره.
بدت من خلال رسالتها أنّها امرأة تجاوزت الخمسين، سافرت للقاء رجل كنديّ أحبّته في سنوات شبابها.
ويبدو لي أنّ هذه المرأة عانت من خذلان الأحبّة، وويلات حرب في بلد “وقعت وتشظّت كآنية كبيرة من الزّجاج”، بالإضافة إلى فقد الأب وما تلا موته من مشاعر متناقضة من إحساس بالفقد وغبطة تحرّر من حبّ قيّدها، ولعلّ حضور رمزيّة العصفور في رسالتها دليل على شغفها بالحريّة التي يُحرم أبناءُ بلدها تنشّقَ هوائها.
في المطار تُلقي المرأة التي خاب أملها من حبيب لم يأت رسالتها في سلّة المهملات؛ ممّا سهّل على أحد الموجودين في المطار قراءتها وهو بدوره شرع يكتب رسالة لوالدته مسترجعاً ذكريات الطّفولة والشّباب المؤلمة، وما تراكم داخله من إحساس مؤلم بالإهانة بسبب تعنيف والده له.
ومن تلك الذكريات تماديه مرّة في الكلام أثناء خدمته الإلزاميّة ليدفع عنه إحساس الإهانة الكامن في اللاّشعور؛ فوشى به شاب يغار من قوّته، وكما يحصل في المعتقلات اعترف بما أُلصق به من تُهم ليتخلّص من وطأة العذاب الجسديّ والنّفسيّ، وليبرهن لهم عن توبته طلبوا منه أن يعمل معهم ويعذّب المساجين، وفي لعبة تبادل الأدوار مارس أعنف أنواع طرق التّعذيب في هذه الحالة “يتّخذ العنف طابع التّشفي الذي لا يعرف الارتواء، لأنّ الجرح النّرجسيّ النّابع من القهر غير قابل للاندمال. فإنّ علاقة الإرهاب تولد بشك ملغز “إفراطاً في الاستكانة تجاه المُتسلّط، وإفراطاً في جبروت القوّة تجاه الأضعف” على حدّ تعبير الدّكتور مصطفى حجازي.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ آثار العنف المتأصّلة في أعماق الشّاب دفعته إلى الإجرام وقتل امرأة أجنبيّة مسنّة عطفت عليه في إحدى الدّول التي استقبلت اللّاجئين بعد اندلاع الثّورة في بلده.
هكذا تُرهب دول القمع مواطنيها وتحوّلهم إلى بيادق خائفة تارةً ومُتسلّطة على الحلقة الأضعف تارةً أخرى.
تقع رسالة الشّاب بعد إلقاء القبض عليه بيد امرأة تعمل خادمة في المطار، فتكتب بدورها رسالة إلى أخيها الذي ارتأى لنفسه أن يأخذ دور المُحاسِب المُتسلّط وهو المُستَلب على الأصعدة كافّة.
تختار الكاتبة في هذه الرّسالة أن تأخذ آلة التّصوير الخاصّة بها وتلتقط صوراً من القاع الاجتماعيّ الفقير وما يجري فيه من زواج القاصرات مقابل حصول الأهل على المال، وكيف ينتهي هذا الزّواج بالطّلاق في كثير من الأحيان، وهنا تجد الفتاة نفسها ضحيّة مجتمع لا يرحم، وظروف اقتصاديّة سيّئة تجبرها على الأعمال المُهينة والدّعارة.
الرّسالة الأخيرة في الرّواية من شاب “مثليّ” وجد رسالة في البار من فتاة إلى أخيها المسجون شجّعته على كتابة رسالة إلى أبيه.
تكشف الكاتبة من خلال قصّة هذا الشّاب عن هيمنة عدد غير قليل من الآباء في مجتمعاتنا على أبنائهم، وعجز الآباء عن إيجاد وسيلة للتواصل معهم، وهذا الشّاب كغيره من الشّبّان النّاجين من قوارب الموت انتهى به المطاف في بلاد الغربة، إلّا أنّ خصوصيّته الجسديّة والنّفسيّة جعلته يعيش في مجتمع ضيّق مع أقرانه المثليين يعاني الفقر والتّشرّد والوحشة دون أن يصله جوابٌ من أهله على رسالته.
الفصل الثّاني في الرّواية جاء تحت عنوان “في المطار” وهذا المكان يدلّ على علاقة تقابليّة بين ثناثئيّات: (اللّقاء/ الفراق)، (الفرح/ الحزن)، (الأمل/ الخيبة) إلّا أنّ كاتبي الرّسائل جميعهم لم يلقوا في المطار إلّا الفراق والحزن والخيبة.. وفي هذا الفصل تركت الكاتبة مساحة للقارئ ليشارك في خواتيم عالمها الرّوائيّ وفق أفق التوقّع لديه، وهي بذلك تنقله من دور المتلقّي السلبيّ إلى دور المتلقّي الفاعل.
والفصل الأخير في الرّواية حمل عنوانين هما: “الخاتمة، موت البوسطجي” والسّؤال: لماذا جعلت الكاتبة روايتها تنتهي بموت البوسطجي (ساعي البريد)؟ أهو موت مجازيّ؟ وكأنّها أرادت أن تقول إنّ مصير الرّسائل كمصير أصحابها أي النسيان والتجاهل والضياع؟ أم هو موتٌ أمسى مصير من بقي في بلاد تنهبها الحرب وداعش؟
وليس بخافٍ علينا نفاذ الكاتبة إلى أعماق شخصيّاتها، ورصد حالاتها السيكولوجية، إلّا إنّ الشّخصيّات جاءت بدون أسماء صريحة، وكأنّ كلّ شيء يسقط ويضيع في زمن الحرب.
وفي الحقّ أنّ الكاتبة جعلت شخصيّاتها ابنة بيئتها الاجتماعيّة والثّقافيّة، ولم يفد اتصالها مع الآخر في إزالة ما علق بها من رواسب التّنشئة الاجتماعيّة والثّقافيّة الأولى.
وينبغي ألّا يفوتنا الحديث عن خروج الرّواية عن دائرة الزّمان والمكان المحدّدين تحديداً واضحاً؛ لكن عندما رصدت الكاتبة الغربة بأبعادها النّفسيّة والمكانيّة لأناس اغتربوا عن بلدان لم يجدوا فيها إلّا الفقر والاستبداد وويلات الحرب، أرادت أن يكون زمن الرّواية الحاضر والحاضر المستمرّ، وقد يرتدّ زمن الأحداث إلى مرحلة الطّفولة لدى بعض الشخصيّات.
ولم تحدّد الكاتبة أسماء الأمكنة بشكل صريح، وهي البلاد التي تركها أصحاب الرّسائل، وبلدان الاغتراب التي قصدوها، بالإضافة إلى المطار.
إنّ عدم التّحديد هذا أغنى خيال القارئ، ودلّ على القواسم المشتركة بين المنافي (القسريّة أو الاختياريّة) وكأنّ كلّ مكان يترك فيه الإنسان “البيوت الأولى” يشبه الأمكنة التي رصدتها الكاتبة بأبعادها النّفسيّة والماديّة، غير أنّ هذا لا يعني أنّ بلدانهم كانت أحسن حالاً فحضورها ولو كان في الحلم يكون “كالكوابيس”
ومن الملاحظ حضور الأمكنة المغلقة في الرّواية (الغرفة، البيت، البار، المطار، الزّنزانة، الفندق..) هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على قلق القاطنين فيها وضيقهم، وهم الغرباء المشرّدون، ممّن رسمت ظروف الفقر والحرب والاستبداد مصائرهم ودروبهم المسدودة.
والمتمعّن في لغة الرّواية يرى أنّها لغة بسيطة سهلة، بعيدة عن الإغراق في التعقيد؛ وهو ما يناسب أسلوب الرّسائل الذي بنت عليه الكاتبة طريقتها في السّرد.
يمكن في ضوء ما تقدّم أن نقول إنّ رسائل الرّواية كشفت الرّوابط المشتركة بين أشخاص لم يجدوا في بلادهم إلّا الفقر والنبذ والاستلاب؛ ويبدو لي أنّ الجسور التي عبروها إلى بلاد أخرى لم تساعدهم على محوّ الظّلال المهيمنة على حياتهم التي امتدّت فأثرت في أسلوب كتابتهم، لذا جاء بريدهم حزيناّ مُعتِماً كظلمة اللّيل.

Exit mobile version