مقالات رأي

الاختلاف بوصفه فتنةً

نوار عقل

تُعبّر بعض المفاهيم المستقرة في الثقافة العربية عن حالة من التناقض الصارخ بين نموذجين من الوعي؛ وعي أصيل مستبطِن، يأخذ شكل ثقافة مستوطنة في البنية الثقافية للمجتمع، يعمل فيها عمل الأفكار المسبقة، من اختزال وفهم للظواهر، وتوجيه للسلوك. ووعي آخر سطحي زائف قد يناقض تماماً هذا المفهوم (الأصيل) -حتى الآن-. وليس مفهوم الاختلاف إلا نموذجاً لافتاً لهذا الحال، حيث لا تخفى على أحد قيمة الاختلاف وأهميته، والدعوة إليه. في حين أن نظرة فاحصة للإرث الثقافي، وللبنية الفكرية لمجتمعاتنا الحالية تدعونا إلى وقفة تأمل في آفاق الاختلاف، وإمكانيته الحقيقية، لاسيما ضمن ثقافة تمتاز بصناعة التقية، وقد اعتادت اعتبار الاختلاف فتنةً.

ومما لاشك فيه أن ارتباط المفهومين: النفسي المعرفي والثقافي: الاختلاف بوصفه فتنة، والتقية، ذو دلالة واضحةٍ من حيث السبب والنتيجة المتبادلة أو المتعاضدة بينهما. فحيث أننا لا نستطيع البت بالقول إن التقيّة نتيجة منطقية لاعتبار الاختلاف فتنة بين الناس، بإمكاننا القول أيضاً إن التقية، تعملُ كسبب إضافي في تأصيل ثقافة نفي الاختلاف، والحذر منه كشر مستخف، قد يظهر في أي لحظة سانحة فينشر الفتنة والخراب، وذلك طالما أن التقيّة تعني إخفاء ما نبطن خوفاً من إظهاره. وعليه فإن كل اختلاف يحمل في وعينا عنه شراً وتقية وخفاءاً. والذي بدوره يؤسس لثقافة الأحادية والمركزية والتنميط، تلك الثقافة التي ابتليت بها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، على الرغم من أن الاختلاف لم يزل واقعاً موضوعياً تاريخياً واجتماعياً ليس من الممكن تجاهله، بل هو واقع صلب في طبيعته، يعاند محاولة اختزله أو نكرانه.

غير أن هذا الاختلاف لم يتحول قط إلى حيز الوجود في الوعي الثقافي العربي كعامل إيجابي أو مقبول على أقل تقدير، بل ما فتئ يرفض ويقاوم في كلّ أشكاله العقائدية والفكرية، لصالح المركزية الدينية أو السياسية، أو كلاهما معاً بشكل متعاضد. وقد اخترق مثل هذا الوعي كل أنواع وعناصر الاختلافات الجزئية، فامتدت التقيّة، إلى داخل التقية، كما رفض الاختلاف ضمن حيز الاختلاف. أي أن المجتمعات المغلقة أصبحت تمارس ثقافة التقيّة داخل منظومتها الفكرية النمطية السائدة، كما أن الاختلاف الذي تصرّح بأحقيته كل التيارات على اختلاف مشاربها، ترفضه ضمن منظومتها أيضاً.

لقد درجت العادة على اعتبار الاختلاف شقّاً لعصى الطاعة، ولهذا المعنى أبعاد سحيقة في اللغة والثقافة، فالطاعة من العبودية، والطاعة لله في الدين، واختلاف الناس يعني الانشقاق والانقسام وتشتيت الآراء. إذاً، فشقُ عصى الطاعة للخليفة أو الحاكم، يتم بالاختلاف عنه بالرأي، وذلك يفرض أن الرأي السديد أو الرأي بحدّ ذاته ملك للحاكم. والذي مازال يظهر إلى الآن على شكل (خليفة) أو قائد (أسد) مفدّى لا بديل عنه. وهكذا يتحتّم على المجتمعات (القطيعية) أن يتبنوا آراء الحاكم، ويعيشوا حياتهم وفقاً لتصوراته. كما يتوجب عليهم بالمقابل أن لا يكون لهم مثل هذا الحق؛ الرأي. كل ذلك منعاً للفتنة، والفتنة أشدُّ من القتل! وهنا قد يحمّل الرأي تبعات التجريم العظيم، وارتكاب الكبيرة، وبالتالي الفسق، أو حتى الكفر، وبمعايير أخرى الخيانة والعمالة؛ ليس ثمة فرق.

ليست المشكلة محصورة فقط في المركزية القارة في عقول الناس، بل تتعداها إلى نمط الوعي التي أنتجته، وتنتجه باستمرار. إذ ليس هناك اختلاف دون وعي كامل بأهمية الاختلاف.

ولعل ميراثنا الثقافي غزير بالتصورات (المعرفية) التي وإن كانت تؤكد على وجود الاختلاف، إلا أنها من جهة أخرى تبيّن أن الحق مع فئة ناجية من بين الفرق المختلفة الضالّة، هذا ما نجده على سبيل المثال في كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني. وهنا لا بد من القول إن نقداً جذرياً للمجتمع وللميراث الثقافي لابدّ من خوض أتونه؛ فالدعامة الفكرية لهذه الدعوى تجد سنداً لها في التراث وفي اللاشعور الجمعي. فالحقيقة أحادية، تقوم عليها سلطة واحدة، مطلقة. وهذا ما لا يمكن أن نستند إليه ونحن ندعو إلى مشروعية التعدد وإرساء مبدأ الحق في الاختلاف، وما يترتب على ذلك من تعاقدية النظام السياسي، وتداول السلطة، إلى غير ذلك من المبادئ والقيم التي نسعى اليوم لإقرارها لتتنزل فينا منزلة التقاليد المستحدثة. إنها قضية نضال ديمقراطي، إلا أنها أيضاً، وقبل ذلك، قضيّة نضال ثقافي، أي نقد جذري للدعامة الفكرية التي يرتكز إليها أي نظام استبدادي ويجد لها سنداً في الميراث الثقافي: أي ادعاء ملكية مزدوجة للسلطة والحقيقة، وبالتالي إلغاء كل مشروعية للاختلاف.

إن الثورات اليوم لا تقف حدودها عند تغيير نظام سياسي، أو اجتماعي، بل هي كفيلة بنقد عام وجذري للثقافة السائدة، ما خفي منها، وما هو ظاهر. بل إنها تعمل على إخراج البنية القديمة بكل تناقضاتها إلى السطح، وعلى التاريخ أثناء سيرورته مهمة الانتصار للواقع، وللطبيعة البشرية، كلّ ذلك في سبيل الوصول إلى بناء الإنسان، الذات، المتميز، ومراعات كل أنواع الاختلافات بين الأفراد، ابتداء من التربية والمناهج في التعليم وانتهاء بالشكل السياسي للمجتمع.

يغدو هذا محصلة وعي جماعي ونتيجة تجربة مريرة لا بد لمجتمعاتنا من اعتناقها.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top