مقالات رأي

الأدلجة الفكرية وخطورتها على مفاهيم المجتمع المدني

سردار ملا درويش

يتخذ المجتمع المدني اعتيادياً التوازن بين السلطة من طرف والمؤسسات الخاصة من طرف أخر، كما يساهم في تقدم وتطور وازدهار المجتمع، هذا الظاهر في دولٍ تحترم الفرد وحقوق الإنسان، ولديها فضاء واسع أو أقل من الحريات واحترام المواطن، لكن في ظل حكم شمولي مثل النظام السوري، لن يرى المجتمع المدني النور، الأمر الذي كان واقعاً على مر عقود.

مع بداية الحراك الثوري في آذار 2011 خلق السوريون المتضامنون مع الثورة خاصة من فئة الشباب، تجمعات متفرقة الاختصاصات لمواكبة الحراك، وتنوعت بين أعمال مختلفة لمجاراة الواقع، مثلت شيئاً أشبه بمؤسسات أو تجمعات ستنتقل تباعاً لشكل جماعات مدنية لخدمة الواقع.

مع انهيار الشكل الحقيقي للدولة السورية، ونقص احتياجات السوريين وانقسام المجتمع على الجغرافية السورية بين مناطق خاضعة لجهات متعددة التسميات والأفكار، كان تنظيم عمل تلك التجمعات المشتتة وبداية مأسستها واجباً، للعمل على خلق أرضية مجتمع مدني بسيط قادر على مواكبة التطورات المتسارعة، والإعداد لبيئة مجتمعية تساهم أيضاً في بناء سوريا المستقبل، كما كان الأمل كبيراً بأن تبقى قيادة تلك التجمعات في يد الشباب الذين هم العمود الفقري لأي مجتمع.

لأن الحديث يتعلق بواقع منظمات المجتمع المدني السورية القائمة، ولعدم وصول السوريين لثمار ما خرجوا من أجله، وجب التطرق والحديث عن عدم فهم كثير من الشباب السوري للمعنى الحقيقي لجوهر فكرة المجتمع المدني، الذي اختلط لديهم بمفاهيم سياسية أكثر من الماهية. الأمر الذي شكل تأثيراً سلبياً في نمط المجريات، وانعكست نتائجه السلبية على ظروف الناس المحتاجين في نهاية الأمر، الناس الذين ما انفكوا يتضررون من تناقضات الواقع والظرف السوري ومتغيراته عبر الكيانات الحاكمة المختلفة والمتغيرة بعض الشيء، والتي اتبعت سياسة الولاء مقابل العيش.

ليس خافياً أن آلة القمع التي استُخدمت ضد السوريين لعبت دوراً كبيراً في عدم إيجاد فسحة قياسية لامتحان واختبار العمل الحقيقي للسوريين، لكن بعد خمسة أعوام من الحراك، وما أفرز عن مؤسسات وإدارات وتجمعات، كان كافياً لإدراك مفهوم المجتمع المدني بمفاهيمه النظرية على الأقل، وعزله عن الإيديولوجية الفردية المزروعة في العقول.

ليس من الغرابة كل ما ذكر آنفاً داخل المؤسسات السورية الحديثة، فيكفي أن تكون حاضراً في لقاءٍ يجمع عدة منظمات سورية تعمل في مجال المجتمع المدني باختصاصات مختلفة (إنسانية وإغاثية وتنموية ومجتمعية) كي تصل لنتيجة أن السياسة والفكر يسيطران على العقل الجمعي لدى السوريين؛ فبرغم قيام تلك الجهات بمجهودات كبيرة لخدمة السوريين مقارنة بمعادلة الصفر أوعدم الوجود السابقة ما قبل الحراك، إلا أن غالبية ممثلي تلك المنظمات على الأقل لا تخلو أحاديثهم من إظهار طابع سياسي مؤدلج، ليس بعيدا عن الارتباط بالثورة فحسب بل مشحون بروح منافية لعمل المجتمع المدني، متناسين المسؤولية الفردية تجاه المجتمع وهو ما يتطلبه عمل المتطوعين في مجال المجتمع المدني، حتى إن المشاورات لم تتجنب إضفاء الطابع الفكري والتشنج على النقاشات وتحويرها، في محاولات تعتبر سلبية بتحييد جهات تتضامن مع أفكارهم حتى لو كانت الأخيرة لا تعمل لصالح حاجات المجتمع الأساسية، الأمر الذي ينافي صلب العمل، وبدل توجيه مدخراته -أي العمل- نحو الإنسان قبل الموقف والفكرة، تراهم يتسرعون بالتميز على أي صعيد كان، دون النظر إلى أن أكثر المتضررين من الحرب السورية القائمة هم الأهالي أنفسهم، الذين تسيرهم التغيرات السياسية والإيدولوجية بحسب الجهات المسيطرة على الأرض.

لم يدرك غالبية العاملين ضمن مجال المجتمع المدني حتى اليوم، أن فردية العمل لا تشكل أساساً لبناء مجتمع سليم خاصةً في حال كان الأمر متعلقاً بشكل الدولة، ما يتطلب العمل بفكر جمعي وإزالة انعدام الثقة بين تلك المؤسسات، فبرغم وجود المئات من منظمات المجتمع المدني التي تعمل من أجل المجتمع السوري مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدعم الحاصل لتلك المنظمات لا يؤمن لها استمرارية أبدية في العمل، وفي حال إزالة مفهوم الأنانية بعض الشيء، والعودة لتجارب واقع دول تعرضت لكوارث، سنلاحظ أن فردانية العمل زادت من عبء المجتمع أكثر من نفعه، وهذا ما سارت غالبية منظمات المجتمع المدني السورية عليه في الوقت الحالي على الأقل.

يلاحظ على مدى أيام في لقاءات تلك المنظمات غياب أو افتقاد الدراية والوعي بمتغيرات الواقع السوري في كافة نواحيه، وهذا ربما يعود لعدم وجود ثقافة صلبة بين السوريين أنفسهم، بل هناك وجهات نظر مبنية مسبقاً لا تختلف عن رؤية السياسيين الذين تبنوا منذ اليوم الأول آلية «التناظر التاريخي»، حتى إن مفهوم الحرية الشخصية في عمل منظمات المجتمع المدني لم يظهر في العمل على أنه تطوع اختياري تجاه خدمة الناس والعطاء لهم، وكأن منظمات المجتمع المدني السورية لم تتبنَّ الفهم الليبرالي لمعنى المجتمع المدني، بل طبقت النظرة الماركسية برغم عدم وجود سلطة شيوعية، فهم أنفسهم أفرغوا مضمونه بالأيديولوجية التي لا يستطيع السوريون الخروج منها والعمل بمنطق مع الواقع أو التمييز بين مهنية العمل والفكر الذي يحملونه، الأمر الذي لا يبشر بالخير لمستقبل المجتمع، المطلوب من تلك المنظمات العمل لهدف سامٍ في خدمة السوريين ككل، لا النظر أن تلك الجهة موالية والأخرى معارضة أو رمادية أو تلك تتفق مع رؤيتنا والأخرى لا تتفق، فلا أحد يستطيع اليوم فرز الواقع السوري بحسب الفكر، لكثرة الجهات التي تدير الجغرافية السورية، كما لا يجب الحكم على البقعة الجغرافية بسبب الجهة التي تدير تلك البقعة.

إن إضفاء الفكر الفردي على العمل الجمعي، بمحاولة دسّ الأفكار من قبل جهات من المفترض أن تلعب دوراً مؤثراً لتطوير المجتمع، يشكل عداءً مجتمعياً أكثر من دمج المجتمع داخل أطر توصلها لمفاهيم الحرية والكرامة والديمقراطية، وفي الحالة السورية بدل العمل على لعب دور الريادة في إزالة الشوائب التي تراكمت على مر العقود، ستشكل هذه التفرقة جداراً من الصعب إزالته، خاصة في ظل الصراع الطائفي والمذهبي والقومي القائم، الأمر الذي يؤدي لتخوف مكونات المجتمع من المجهول القادم، وإظهار ديكتاتورية جديدة ليست بأفضل من السابقة.

برغم أن الثورة السورية استطاعت أن تشكل وحدة حال بين السوريين، إلا أنها لم تستطع شمل كافة السوريين برؤى واحدة، لربما وحدها أزمة اللاجئين السوريين الأخيرة بالنزوح تجاه أوربا استطاعت إثبات بعض وحدة الحال، فتلك الأزمة ألغت بعض الشيء المناكفات والتضادات القائمة، وأنست التفرقة بين موالٍ ومؤيد بعض الشيء في طبيعة الواقع، وهذا ما كان كافياً لينذر منظمات المجتمع المدني أن العمل للسوريين ككل هو صلب المطلوب.

إن عمل المجتمع المدني لا يقتصر على التطوع الفردي بغرض تحقيق فائدة مجتمعية، أو تكوين اتحادات مشتركة تعمل في حلقة دائرية مفرغة، بل تشمل التفكير -بعد خمس سنوات من الحراك- بالعمل على تأسيس إسهامات تزيد من فرص السوريين وتقلل المخاطر المجتمعية كالحماية وتقليل الأمية ومحاربة البطالة بمرافقة تنمية العقل والفكر لدى السوريين وتشجيع الأخرين على العمل. فالمجتمع المدني ينمو بمقدار استعداد أفراده للعطاء بدون مقابل لإفادة الجماعة، شريطة أن يتم زرع قيم أخلاقية وثقافية وسياسية وعلمية وخيرية، تساهم في نصرة قضايا مشتركة للجميع، ليكون بالفعل عمل تلك المنظمات مؤثراً على السياسات العامة مستقبلاً، ويكون دورها يشبه القطاع الثالث لخلق ما أطلق عليه إدموند بيرك الأسرة الكبيرة في المجتمع

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top