قامت الدولة القائمة بالفعل في سوريا على احتكار القوة والثروة والمعرفة، وعلى عدم الحياد تجاه المجتمع السوري؛ فهي الوصي على المجتمع والمربي له. فإما الولاء والطاعة للدولة وإما الحرب والقتل والسجن والنفي والملاحقة. ثمة مشكلة قابعة في الدولة رسختها التنظيرات والتاريخ، قبل أنْ تتصف الدولة بصفات القطرية والقومية والوطنية والعلمانية والإسلامية… الدولة المُنظَّر لها جيداً بواسطة “هوبز ومكيافيلي وابن خلدون” هي بنت التاريخ والمعرفة لا بنت الطبيعة.
ما تتحدّد به “الدولة السورية” بوصفه سلطةً تُمارس في المجتمع السوري، وتجلياته النظرية والتطبيقية، السياسية الطابع، تُشكِل بمجموعها قوام ما ندعوه هنا “الدولة الوطنية”. هي “دولة” لأنها تحتكر القوة والثروة والمعرفة، احتكاراً منهجياً قوامه “مبادئ” وآليات قابلة للوصف والتحليل. وهي “وطنية” لأنها تستخدم هذه الأدوات بالذات لإخضاع الشعب السوري تحت سيادتها. مُنتجة بهذا الإخضاع ما يمكن تسميته “التساكن الوطني” بين أفراد وجماعات ومذاهب وطوائف… ضمن متحد جغرافي. ولكل من هذه المتراصفات تاريخه؛ تاريخ الاختلاف والتباين. وغير منتجة لما درج على تسميته “الاندماج الوطني” بين مواطنين لهم تاريخ منسجم ومتآلف، فتربطهم السيادة في وحدة كوحدة “الدولة الوطنية السورية”.
وتقويض حالتي الاحتكار وعدم الحياد، القائمتين في الدولة القائمة، بواسطة قوى الثورة السورية وكنتيجة لثورة “الاتصال والتواصل” العالمية هو ما نسميه “ترويض الدولة”.
لزمن طويل نكون نحن السوريين قد تحملنا الدولة التي تحتكر القوة والثروة والمعرفة. ويُقدم لنا هذا الاحتكار على أنه من طبيعة الدول وليس خاصاً بحالتنا السورية، والبراهين كثيرة من التاريخ أو الواقع على مثل هذا الاحتكار؛ الشيء الذي كان يضفي على الدولة مشروعيتها في قناعاتنا ويسوغ لها في نقاشاتنا وتنظيراتنا.
وقد لا نزال، نحن السوريين، نخضع لهذا الفهم الخاص بالدولة حتى يومنا هذا، ومن المرجح أننا سنخضع له في المستقبل؛ لأنه فهم كامن في أطروحات المعارضة عموماً.
قامت “الدولة الوطنية”، القائمة بالفعل في سوريا، باحتكار وزارات تُمثِّل القوة والسيادة؛ كـالدفاع والداخلية والعدل، مضافاً إليها الدبلوماسية. واحتكرت أيضاً وزارات تُمثِّل الثروة؛ كـالاقتصاد والتجارة والزراعة والصناعة، والمصرف المركزي وما يتبعهما من مواد أولية واستيراد وتصدير وأعمال. واحتكرت كذلك الوزارات التي تُمثِّل المعرفة وصناعة الحقيقة؛ كـالبحث العلمي والتعليم العالي والتربية والتعليم والإعلام، مضافاً إليها المعلومات ومصادرها والإحصاءات ونتائجها.
ولم تكن “الدولة الوطنية” القائمة في سوريا محايدة تجاه شعبها؛ أي أفرادها ومواطنيها ومكوناتها الاجتماعية والسياسية. بل على العكس من ذلك كانت منحازة وتمييزية بين أفرادها، وكانت طرفاً مهيمناً هيمنة تامّة على قوة الشعب السوري وثروته وقدرته على إنتاج المعرفة والحقيقة، والأنكى من ذلك أنها استخدمت هذه القوى ضده أولاً، ومن أجل بقاءها واستمرارها كمحتكرةٍ وحيدةٍ وكعدم محايدةٍ ومنحازةٍ ثانياً. وأصبح الفرد السوري لا يعرف الحرية إلا بالخروج من “دولته الوطنية” أو بالخروج عليها.
ويتعلق هذا النوع من احتكار الدولة وعدم حيادها تعلقاً شديداً بقيام ثورة الشعب السوري؛ لأنها، ببساطة، دولة الاحتكار والإخضاع وحرية التصرف بالمصرف المركزي. إنها العلاقة الكامنة من حيث الشروط الابتدائية لحظة قيام الثورة من جهة، وبالنتائج المترتبة عليها؛ لأنَّ ثمة علاقة تناسب طردي بين واقع “الدولة الوطنية” وبين صيرورتها من حيث سيرورة إنتاج البديل من جهة أخرى.
فقد درج الخطاب المعارض على المطالبة “بالدولة الوطنية” دون سؤال هذا الشعار وفحصه. ودون تخليصه من الحالتين الملازمتين له؛ أي حالتي الاحتكار وعدم الحياد. هذا بالرغم من إمكانية النظر لما يحدث في سوريا الآن بوصفه تقويضاً لاحتكار الدولة وعدم حيادها؛ أي بكلام آخر، إنتاج بديل يتجاوز هاتين الحالتين ولا يكرِّسهما.
ساهم تقدم قوى الثورة بتقويض حالة الاحتكار المرتبطة “بالدولة الوطنية” ولم يسهم في تقويض حالة عدم الحياد. وساعدت ثورة “الاتصال والتواصل” قوى الثورة بذلك التقويض. الشيء الذي يعني فيما يعنيه تقويض “الحقيقة الوطنية والدفاع الوطني والثروة الوطنية” وانفراط “التساكن الوطني”.
يُفترض أنَّ المعارضة تجاهد لإعادة بناء “الدولة الوطنية” في سوريا. وكأنها تحاول الآن أن تبدأ مشروعاً انتهى مفعوله في سوريا وعالمياً. فلقد ارتبط مشروع “الدولة الوطنية” بوضع سياسي واجتماعي ونمط من التطور التقني/المادي، تجاوزته الظروف الراهنة. فإحدى أفضل أدوات بناء الوطنية خلال القرن العشرين كانت التلفزيون الحكومي، وقدرة الحكومة على احتكار السيطرة على الإعلام والتعليم ووسائل التثقيف الجماهيري الأخرى، وبالتالي بناء المجتمع الجماهيري الذي يرتبط ذهنيا بمجتمع وطني موحد. لكن حتى هذه الوسيلة ما عادت ممكنة مع تطور الفضائيات والإعلام الإلكتروني، وتحديدا الإنترنت، والحرية التي بات يمتلكها المتلقي في اختيار أخباره ومعلوماته.
فقدت “الدولة الوطنية” ببساطة قوتها وقدرتها على التحصين إزاء الخارج؛ فصلابة أية دولة ومحكها الحقيقي يكمن في علاقاتها مع الخارج. وتبددت ثروتها الوطنية بالفساد والإفساد. وتلاشت قدرتها على السيطرة على الإعلام والمعلومات، وبالتالي على التحكم في المعرفة أحد أهم عناصر السلطة؛ فالقدرة على إنتاج المعرفة هي قدرة على إنتاج السلطة.
يطالب خطاب البديل المعارض، للاحتكار وعدم الحياد، “بدولة وطنية”، معتقداً أنَّ المشكلة أخلاقية تكمن في “الوطنية” صفة الدولة، وليس بالدولة بالذات. وينسى أو يتناسى دوره، في تقويض حالة عدم الحياد الملازمة “للدولة الوطنية”، ومشروعه، الذي يَفترض إنتاج “الدولة المحايدة” تجاه شعب هذه الدولة ومكوناتها الاجتماعية والسياسية.
لا يمكن تقويض احتكار الدولة الحاليّ لصالح احتكارٍ يكون بأيادٍ مختلفة؛ لأنَّ تقويض الاحتكار بات واقعاً معززاً بثورة “الاتصال والتواصل” وبثورة الشعب السوري. ولكن “الحياد” مازال مشروعاً يحتاج إرادة السوريين لتحويله إلى واقع.
يحتاج الشعب السوري اليوم، كممكنٍ ضروريٍ وواجبٍ، الانتقال من “الدولة الوطنية”، دولة الاحتكار والإخضاع، إلى “الدولة المحايدة”، دولة التفويض لا التسلط. والانتقال من “التساكن الوطني” إلى “الاندماج الوطني”. وبهذا يمكن تجاوز الاحتكار وعدم الحياد؛ أي ترويض الدولة.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.