ها نحن نودع عاماً آخر والطوفان السوري لم بتوقف بعد! وميزة الطوفان أنه يحدث بعد موسم خير من المطر الغزير أولاً، ولكن دون أن يكون قد تم تجهيز البنية المادية، أو العمل المستدام على تحسين شروطها أثناء المطر ثانياً. فيصبح تدفق المياه وارتفاعها فوق المستوى الطبيعي حدثاً كارثياً بعد أن كان هطول المطر نفحة خير وأمل بموسم مزدهر..
عام آخر يودعه السوريون والطوفان متعدد الاتجاهات يغزو حياتهم:
المزيد من الانهيار في الواقع الاقتصادي وارتفاع الأسعار الجنوني، لدرجة أن ما يزيد عن 10 ملايين سوري باتوا دون خط الفقر حسب إحصائيات أممية، فيما تفاجئك حكومة النظام بزيادة 30 بالمئة من الراتب، أي لا تتجاوز 27 ألف ليرة (أقل من 8 دولارات) على راتب الموظف المحسوب 90 ألفاً وسطياً، وبعد اقتطاع التأمينات والضريبة عليه، تصبح هذه الزيادة لا تتجاوز الـ 20 ألف (6 دولارات)، والمذهل أن مجموع الزيادة سنوياً لا يمكن أن يشتري 100 ليتراً من المازوت للتدفئة الشتوية؛ حيث أن ليتر المازوت الحر يتجاوز 3 آلاف ليرة!
في مظاهر الطوفان متعدد الاتجاهات تتعدد مواسم التهجير والاقتلاع من البيوت، بعدما كانت موجهة وممنهجة وصلت لما يزيد عن نصف سكان سوريا، باتت اليوم إرادية وطوعية وبكل الطرق المتاحة القانونية وغيرها، كالتهريب ومغامرات الموت الكبرى، حيث لم يعد من معنى للمقام في البلد سوى الهدر والموت البطيء، ليأتي على البقية من السكان والطاقات السورية الشابة منها أو ذوي الإمكانات المالية محركة السوق والاقتصاد..
قمع الحريات المنتجة للتغيير، ولنقل إنه لم يعد يجدي الفعل التحرري الموصوف بالفردية أو الحلول الفردية بعد أن تمّ سحق كل نماذج الحرية الجماعية، التي كانت أصل موسم الخير قبل سنوات عشر.. البطالة والعطالة والحلول الفردية اليوم كلها مترافقة مع بعضها.. ومؤشراتها تزداد خطراً، كانتشار المخدرات، والانحلال العام في القيم المجتمعية، قيم المجتمع الروحية والخاصة بالتماسك والترابط وتعزيز دور الفرد والإمكانات والطاقات، باتت اليوم في موقع مختلف كلياً.. باتت هدراً وغلاً وعملاً ممنهجاً على تفريغ المجتمع من إمكاناته الخلاقة والمبدعة، وإخراج معادلة الشباب والتجديد والحيوية من معادلة الحضور على الساحة، لتبرز بدلاً منها معادلات التقيّة والتوكّل والتواكل والطأطأة، والبحث في زواريب العتمة عن أي وسيلة للحماية والأمان على ما تبقى من بعد شخصي للذات المسحوقة.. وليس هذا فقط، بل توجيه كل سهام العداوة والإنكار لكل متميز أو ناجح في المجتمع يحاول عكس تيار الانحدار هذا، سواء كان هذا تعبيراً عن معادلة القهر العكسية، حين المقارنة بين الحطام النفسي للفرد مع المفارقين الذين يغيرون مسار معادلة الهدر هذه، أو بكل الطرق الممنهجة لتعويم الإحباط والفشل ومحاربة النجاح والأمل..
وأيضاً، وهذه قصة حزن معتق، لم تعمل الطرق السياسية والمدنية السورية على تقنين وتحسين شروط الطوفان هذا، بل ساهمت في إذكائه بزيادة تمترسها خلف أيديولوجياتها واحترابها الضمني على شبهة سلطة تلوح بالأفق بعد المطر، ليأتي الطوفان ويغرق الجميع، وتصبح غايات الفعل السياسي المعارض لليوم مجرد تهكم الكل على الكل، والنجاة المنفردة، هذا إن تمكنت من ذلك..
الطوفان السوري، وثمة ما يفيض فيك عنوان ألم لم يتوقف أنينه بعد، ولربما لوحة “الطوفان” للفنان الفرنسي “جوزيف ديزيريه” (1797 -1865م) والمولود خلال الثورة الفرنسية والمعاصر لتقلباتها، تقرب المعنى أكثر. ولوحة الطوفان التي رسمت عام 1827 كانت تمثل مفارقات فرنسا وقتها، وليست معركتها مع الحياة والتقليد وتجديد عصر الديكتاتورية البونابارتية وحسب! بل مفارقات مثلها ديزيريه بعناية فائقة، تظهر الشاب الفرنسي القوي الذي يحاول إنقاذ رجل كهل أشيب، ويترك زوجته وطفلهما بجانبه دون أن يقدم على مساعدتهما! غرابة اللوحة أنها تجسد ذلك المشهد المعاكس لسير التاريخ حين كانت لازالت أوروبا الناشئة ويمثلها الشاب القوي، متمسكة بالماضي الذي يمثله العجوز الذي يغرق في طوفان فوضاها بعد ثورتها، في حين أن مستقبلها وصنّاع حياتها متمثلة بالطفل وأمه متروكين للطوفان! اللوحة نقدية بمحتواها، واضحة بعنوانها، جريئة في مغزاها، ليكون الفن أداة مبدعة نقدياً وفنياً وفكرياً للتعبير عن تناقضات الواقع ومجرياته، في مرحلة كانت أوروبا تصارع نفسها، إلى أن انتصرت إرادة التغير والحياة فكان عنوانها الناتج: الحرية والعقد الاجتماعي. الحرية والتعاقد السلمي على كيفية الحكم والإرادة الجماعية وصيغة الكل الوطنية هوية ودستور حياة، ونبذ العنف والملكية والاستحواذ السياسي العسكري والديني المنفرد، ووقف الطوفان من دمار كل ما يأتي أمامه!
هل لازال بإمكاننا معاندة تيار الطوفان هذا؟ هل يمكننا البحث عمن يحسن شروط جريانه؟ وهل من الممكن إنقاذ ما تبقى من سوريتنا المهدورة؟ فإن كان الفعل السياسي اليوم بات مرتهنا لمحاور دولية تريد اقتسام الكعكة السورية وأموال إعادة إعمارها، والقائمون على سياسة الأمر الواقع السوري، سلطة ومعارضة، ينتظرون بلعابهم السيال نتائج هذا الفرز، والواقع الاقتصادي ينبئ بالموات العام وطفو فئة جديدة من أغنياء الموت والحرب وتجارها، والعمق المجتمعي يعاني المزيد من التهشم القيمي وزيادة التمسك بالطائفية والإقليمية والارتدادات الدينية، والحلول المتاحة فردية ليس إلا.. فمن يعاند تيار الطوفان هذا؟
الطوفان لن يستمر للأبد، وحتى نساهم في انحساره، لنتمسك ببعض، لنتمسك بقيم حرية الكل، كرامة الكل، الحقوق المدنية والسياسية والدينية للكل وأولها حق الحياة للكل، وسلام وأمن الكل، ومفهوم الكل هو الصخرة التي يحاول الطوفان تفتيتها لحصيات يسهل جرفها سياسياً واقتصادياً وقيمياً، والتي تعكس كل نماذج الهدر أعلاه.. والكل هنا طاقة السوريين الذين يمتلكون رؤية للوطنية السورية العامة، والقادرون على أن يشكلوا حلقات تمايزها عن الهدر والنحت والانزلاق، والذي يمتلكون القدرة والأدوات على التجديد وبعث الحياة، وهذه الثلاثة معاً هي مركب تكاملي لإحياء الوطنية السورية بداية، ليأتي بعدها الفعل المحسّن لشروط الحياة وقيمها سياسياً ومجتمعياً وحياتياً، بكل طرق العمل الممكنة، إذ لم يمت من مات حتى يهجر السوريين ويصبحوا لاجئين ينعمون بالأمان خارج أوطانهم، بل ليساهموا في بناء وطنهم كدولة حقوق وحريات وهذا أضعف الإيمان..