ثقافة

خاطركم .. وصونا

محطّةٌ لا أكثر.. حاشيةُ نصٍّ مكرّر، المفرداتِ والمعاني ذاتها، حتى النقطتان اللتان تفصلانِ المعنى عن الأصلِ ذاتهما، الملامحُ ذاتها، الأحضانُ والقبل ذاتها، جملُ الوداعِ المنمّقة ذاتها، البشر تمرّ منكَ وعليكَ، وأنتَ مكانك محطّة لتكرار الوجوه، محطّةٌ موحلةٌ غارقةٌ في الطينِ عالقةٌ لا تتحرّك.

الغبارُ .. عفنٌ برائحةٍ مختلفة.

لستُ أقصدُ الحبَّ هنا، أو ربّما أقصده لكن بطريقة مختلفة، لا أتحدّث عن النساء اللواتي مررنَ بي وكنت لهنّ محطّةً لا أكثر، أنا أتحدّث عن حالة أعمق بقليل.

هنا في هذا البلدِ المحطّة – أنت المرغمُ على البقاء فيه- تصبح مثله، هذا ليسَ وطنًا بديلًا، أبدًا، إنه سجنٌ بديلٌ يجعلكَ تلعن الأوطانَ وتبحث عن أي طريق للهرب إلى مكان بعيدٍ غريبٍ لا يشبه هذه البلاد، أنت في هذا البلدِ .. معتقلٌ محكومٌ عليكَ بالسجنِ المؤبّد في زنزانة جماعية، يمرّ عليك المعتقلون الجدد، المساجين الجدد، عملاء الأمن، تسأل عن تهمةِ كل واحدٍ منهم، تعيش معه يومًا، أسبوعًا، شهرًا، عامًا، يخرجُ .. وتبقى أنت.. والكلمةُ المكرّرةُ دائمًا، “خاطركم.. وصّونا”!

يمرُّ السوريّون من هنا، لاجئينَ، زائرين، هاربينَ.. يمرّون، وعليك أن تدرِكَ أنك إن توانيتَ عن التقرّبِ منهم.. فأنت خائن، وإن تقرّبتَ تعلّقتَ وتُرِكتَ بعدَ فترةٍ بعد أن يختاروا محطّة جديدة، أصدقاءُ قدامى، أصدقاءُ جدد، الملامحُ ذاتها، البؤسُ ذاته، حتى الحقائب ذاتها.. بعض الملابسِ والكثير من الذكرياتِ، اللقاءاتُ هنا ليست سوى مناحاتٍ أو شجاراتٍ، الضحكُ موجودٌ لكنّه حاضرٌ غائبٌ خفيفُ ظلٍ لا نشعر به، تمامًا هو كذلك.. وربّما أنت كذلك، محطّة خفيفةٌ تغيب بعدة فترة قصيرة من الذاكرة، تُترَكُ هنا في هذه الزنزانة الجماعية، يخرج الجميع ولا تخرج، وتتكرر جملة الوداع.

سافر عمر وسافرت معه غادة ولينا، وظلّت ذكريات السهرة في ذاك المنزل الخاوي إلا من وجوههم، سافر عبد الرحمن وجورج، أبو ريتّا كان مسافرًا إلى السويد قبل أن يمنعوه ويعيدوه إلى درعا، بيسان وماهر رحلا دون أن نجتمع على سهرة لم ينجح موعدها، منى وأمها وكرم أيضًا سافروا الأسبوع الماضي، وبالأمس سافر نايف وأبو لميس!

سيرحلُ توفيق بعد أيّام، سيتبعه أبو فارس وأم فارس، وأنا سأبقى هنا أستقبل وأودّع، لا أستطيع أن ألوم الراحلينَ، جنون أن أطلب من معتقل أن يبقى معتقلًا بعد أن جاء قرار إخلاء سبيله، أنانيّة مفرطةٌ مني، لا أطلب ذلك أبدًا، إنما فقط، أفكّر على ورق، هل اعتدت هذا الحال؟

في لحظة ما، تصبحُ الأحضانُ عندك تمامًا كالتلويحِ من خلف الأسلاك الشائكة، والحب حقل ألغام، حتّى اللهجةُ تصبح عبئَا على مسمعك.. تخشى التورّط في حبّهم، فقط لتتجنّب تلك العبارة المكررة …. “خاطركم .. وصّونا”.

1 Comment

1 Comment

  1. Rastrear Celular

    8 فبراير,2024 at 9:06 م

    Se você está se perguntando como descobrir se seu marido está traindo você no WhatsApp, talvez eu possa ajudar. Quando você pergunta ao seu parceiro se ele pode verificar seu telefone, a resposta usual é não.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top