المحامي ميشال شماس*
إن استحداث المحاكم الاستثنائية يتم في الأصل لمعالجة ظروف استثنائية في زمن استثنائي يقتضي اتخاذ إجراءات سريعة ومؤقتة، ومن ثم العودة إلى الأصل؛ أي إلى الوضع العادي وفقاً للقواعد العامة المعمول بها في الظروف الاعتيادية.. هذا الأمر يجري في الدول التي يكون فيها القول الفصل لمبدأ سيادة القانون على الحاكم قبل المحكوم.
ويمثل إنشاء المحاكم والأقضية الاستثنائية اعتداء صارخاً ليس على حرية الإنسان وحقوقه، بل وعلى اختصاص السلطة القضائية صاحبة الولاية الكاملة والاختصاص الشامل لمختلف المنازعات لأنها تستمد وجودها وكيانها من الدستور الذي أناط بها وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات، باعتبار أن تلك المحاكم الاستثنائية واللجان الخاصة لم ينص الدستور على إنشائها، ولا تتوافر فيها الضمانات التي توفرها القوانين العادية وقوانين السلطة القضائية والتي يكفلها الدستور.
وتنص معظم دساتير الدول الحديثة على حظر إنشاء محاكم استثنائية، وكان الدستور لعام 1950 قد حظّر في المادة العاشرة منه إنشاء محاكم استثنائية، كما نص على منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وفيما يلي نص الفقرتين 9 و10 من المادة العاشرة:
“9 – لا يجوز إحداث محاكم جزائية استثنائية، وتوضع أصول خاصة للمحاكمة في حالة الطوارئ. 10 – لا يحاكم أحد أمام المحاكم العسكرية غير أفراد الجيش ويحدد القانون ما يستثنى من هذه القاعدة”.
وبالعودة إلى الدساتير التي صدرت في عهد البعث، نجد أنها لم تحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، حيث أنشئت المحاكم القومية بعد استيلاء البعث على السلطة، وبتاريخ 28/3/1968 صدر المرسوم التشريعي 47 وقضى باستحداث محكمة أمن الدولة العليا، التي حاكمت عشرات الآلاف من السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان، ثم تلاها استحداث المحاكم الميدانية العسكرية بالمرسوم رقم 109 تاريخ 17/8/1969، التي شكلت وصمة عار وماتزال في سوريا، وبتاريخ 1/10/1972 صدر المرسوم التشريعي رقم 87 وقضى باستحداث المحاكم الحربية التي أعطت لأفراد من الجيش صلاحية إجراء المحاكمات وإصدار الأحكام في القطعات العسكرية.
وتناوبت تلك المحاكم على العمل بنشاط ملحوظ ضدّ المعارضين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان باستثناء محكمة أمن الدولة العليا التي ألغاها النظام في نيسان العام 2011 بعد اندلاع احتجاجات شعبية واسعة تحولت إلى ثورة عارمة ضدّ نظام بشار الأسد. وذلك في محاولة منه لامتصاص تلك الاحتجاجات المناهضة له. ولم يستطع النظام الانتظار كثيراً، فقرر بتاريخ 25/7/2011 استحداث محكمة أسماها “محكمة قضايا الإرهاب” بالمرسوم التشريعي رقم 22 لتحل فعلياً مكان محكمة أمن الدولة العليا الملغاة، وأضفى عليها الصبغة القانونية من حيث الشكل، مدعياً أنها تستهدف الإرهابيين لذر الرماد في العيون، بينما في الواقع أنشأها للتضييق على المعارضين له، ولاسيما نشطاء حقوق الإنسان الذين غصّت بهم السجون والمعتقلات، ومحكمة الإرهاب -من حيث النتيجة- لا تقل شدّة وقسوة في إجراءاتها وأحكامها عن محكمة أمن الدولة.
لم يكن ممكناً للبشرية أن تتقدم خطوات على طريق التقدم الحضاري، لولا التطور المطرد الذي طرأ على الدساتير والقوانين المنظمة لعلاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقة المحكومين فيما بينهم، وضمان احترام تنفيذ المنظومة القانونية مع الحرص على تطويرها بما يحترم كرامة الإنسان، وحريته ويحفظ حقوقه الطبيعية والسياسية من خلال تأمين استقلال القضاء وسيادة القانون الذي أصبح اليوم يشكل ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية ودعامة أساسية من دعائم الدولة الحديثة.
أما في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية استبدادية كبلادنا العربية ومنها سورية طبعاً، فتعمل ليل نهار لتثبت حكمها بمختلف الطرق والأساليب، فتسلك طريق تهميش القضاء والنيل من هيبته من خلال سنّ القوانين والتشريعات والأوامر العرفية، وإنشاء المحاكم والأقضية الاستثنائية التي تسعفها على البقاء في الحكم إلى ما لانهاية؛ حيث تتفنن في استحداث محاكم تحت مسميات مختلفة ابتداءً بمحاكم الأمن القومي، والمحاكم الميدانية، ومحاكم أمن الدولة ومحكمة الشعب والمحاكم الثورية والشرعية، وليس انتهاءً بمحاكم الإرهاب.. اختلفت المسميات والهدف واحد هو الاستئثار.
*عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج