طارق فارس
لم تعرف دمشق، التي عمرها نحو أحد عشر ألف عام، دكتاتوراً مثل حافظ الأسد، الذي أصبح رئيساً لسوريا منذ أكثر من أربعين عاماً؛ فباتت المدينة وكأنها لم تحكم من حاكم غيره، فشوارع دمشق تبدأ بدوار الرئيس وتنتهي بدوائر “الرئيس”، مديريات الدولة ومحلات البقالة والصالات الرياضية والمشافي ودور العبادة اكتظت بصوره. عانت دمشق في السنوات الأربعين الأخيرة من نكسات وتحولات أضاعت ثقافة المدينة وتراثها وهويتها، حتى أحياؤها الشعبية فقدت هويتها، فقد عملت أذرع نظام الأسد على تغير ديموغرافية الأحياء الشعبية، التي سميت “عشوائيات” وأريد لها أن تكون كذلك، لقد بدأت تتحول من سكان محليين ومزارعين إلى حارات تحمل أسماء مناطق أخرى حسب ساكنيها الجدد. وبهذا كان حافظ الأسد بالمعنى الحرفي ينحو إلى خلق غابة حول المدينة تسيطر وتفرض قواعدها على سكان المدن والبلدات كنموذج من الممكن من خلاله السيطرة على سورية. الغابة التي يسود فيها قانون القوي يأكل الضعيف والضعيف يتزلف القوي.
أذكر من تلك الغابة التي كنا نعيش فيها كنموذج واضح لذلك المفهوم، أبو علي، العين الساهرة على حماية الغابة الصغيرة، أبو علي كان مساعداً أول في المخابرات العسكرية، يسيطر على الحي بقبضة من حديد. يظن نفسه نموذجاً مصغراً للأسد الحاكم. له قوانينه الخاصة..
يروي أحد رجال الحي أن أبا علي كان قائد جماعة مسلحة تواجه جماعة الإخوان المسلمين. هذا ما مكن أبا علي من تكميم الأفواه طويلاً؛ لقد كانت تهمة الإخوان المسلمين ترافق كل من يخالفه الرأي وكانت كافية لتخفيه خلف قضبان السجون المشهورة لسنين طويلة.
وفي منتصف تسعينيات، القرن الماضي كان لأبي علي دوراً فعالاً في تنشيط تجارة المواد المهربة، التي كانت حكراً على رجال الدولة، مستغلين فقر وحاجة المواطنين، مما جعل لأبي علي وأمثاله قوة تتحكم في اقتصاد العشوائيات التي لم تكن الدولة تعيرها أهمية. رجال الدولة أو “رجال الأسد” كما يسمون أنفسهم، كان لهم دور بتغذية التيارات الإسلامية السرية، التي اتخذت من البساتين القريبة من مركز العاصمة مقراً لنشر الدعوة ومفهوم الجهاد. كان ذلك إبّان الحرب الأمريكية على العراق، ولم نكن نعي التباس موقفهم.
لأبي علي عدة وجوه قد لاحظها كل من عرفه؛ أبو علي الطائفي الذي يفضل أبناء طائفته على باقي أبناء الحي. أبو علي الوحش رجل الدولة في المهمات الرسمية. أبو علي التاجرالذي يستغل أبسط الظروف وأكثرها تعقيداً لكسب المال وتحقيق مصالحه. أبو علي القريب من تفاصيل وخبايا بيوت الحي كافة.
مع انطلاقة الثورة، شعر أبو علي بالخطر المحدق بالأسد، وهو ما سيؤثر سلباً على غابته الصغيرة. اتخذ موقفه سريعاً ضدّ الثوار وأهالي الحي عامة، وأخذ يتعامل بالمسمى الطائفي. هرع لتشكيل جماعة مؤلفة من مجموعة من الشبان لحماية نظامه المرتبط بالنظام العام للدولة. بدأ أبو علي وجماعته بتشكيل المحاكمات العسكرية للمدنيين، دون الرجوع للحكومة، كما بدأ بالهجوم المسلح على الأحياء القريبة التي كانت تخرج منها المظاهرات.
يعمل أبو علي على مدار الساعات الأربع والعشرين، بين التشبيح والتجارة وبناء عالم اقتصادي جديد بقوة السلاح واستغلال كل الظروف المربكة في البلاد. لم تدم مملكة الأسد الصغير طويلاً؛ حيث كانت طلقات الثوار سبباً في إنهاء حياته. الثورة العفوية تسببت في تشييط غضب التيار الآخر القابع في ظلام العشوائيات، الذين يظنون أنها من حقهم فقط ولا يجب لأحد الخروج على الحاكم دون الرجوع لفتواهم الجهادية.
أبوعلي وسيرته الحافلة بالإجرام والتسلّط، كما باقي التيارات الظلامية المتطرفة تعكس تربية الأسد لعناصره المخلصين الذين كان لهم دوراً مهماً في تشكيل هوية الدولة والصورة المرعبة للقوة الظلامية التي تتحكم بكل تفصيل صغير على الرقعة السورية. هي نفسها القوة التي ساهمت طويلاً بتكميم أفواه الشعب وإشغاله بأمور حياته اليومية، والاكتفاء بما قسم له وعدم التفكير في مستقبل أفضل أو ما ستؤول إليه البلاد.
لقد أدت الغابة التي خلقها الأسد، إلى خلق وحوش ضارية لم يعد يعرف انتماؤها وولاؤها، إنها لا تدين لمنطق الدين والأيديولوجيا، إنما تدين بمنطق القوي والضعيف.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج