أحلم أن يعود المخفر إلى ضيعتنا، ليس نفس المخفر القديم التابع للنظام، وإنما مخفر الدولة الجديدة التي ستنهض بفضل تضحيات الثوار.
لم يكن المخفر في ضيعتنا رمزاً للعدل في يومٍ من الأيام، لكنه كان على الدوام رادعاً للفوضى المجتمعية. كانت المرأة في الضيعة إذا أرادت أن تدلل طفلها نادته “يا مدير الناحية”! وللحق فقد كان مدير الناحية أكثر شخص مُهاب في الضيعة، يحترمه الكبار، ويخاف منه الصغار، ويرجف بين يديه الزعران والمشكلجية. حتى المختار كان يسارع لزيارة مدير الناحية أول تعيينه ويقيم وليمةً كبرى في مضافته على شرفه.
في الأشهر الأولى من الثورة وأيام المظاهرات السلمية لم تكن علاقة المتظاهرين بالمخفر عدائيةً أبداً. وعندما حذرت مخابرات النظام المتظاهرين من وقوع الفوضى بسبب مظاهراتهم، ذهب وفدٌ منهم إلى المخفر ووجه دعوةً إلى الشرطة للمجيء إلى المظاهرة والمساهمة في ضبط الأمن وحماية المتظاهرين. كان مدير الناحية في ذلك الوقت شاباً صغيراً مثقفاً من محافظة حلب. كان لبقاً جداً وودوداً أثناء استقباله للمتظاهرين، ووعدهم النظر جدياً في دعوتهم الشرطة للحضور إلى المظاهرة.
لكن الأمور تطورت بسرعة وارتكبت أجهزة أمن النظام عدة جرائم ضدّ متظاهرين سلميين أبرياء في أكثر من منطقة مجاورة للضيعة، فانقطع حبل الثقة بين الشرطة والمتظاهرين، وبدأت النظرة تصبح سلبية جداً ليس فقط للشرطة، بل ولكل موظفي الدولة الذين صاروا في نظر المتظاهرين عنواناً لاستمرار نظامٍ بات الكل يتطلع ليس فقط لإصلاحه، بل لاقتلاعه من أساسه وبناء نظامٍ جديدٍ مكانه.
وما إن تشكلت أول مجموعة مسلّحة في الضيعة حتى داهمت الشرطة المعتكفين في المخفر وطلبت منهم ترك سلاحهم والمغادرة. كان الثوار الأوائل في أمسّ الحاجة لقطع السلاح وكانت البنادق الآلية البسيطة التي يحتويها المخفر بمثابة الكنز الذي وقع بين أيديهم.
لم يشعر أحد في السنة الأولى من الثورة بوطأة إغلاق المخفر. فالثورة كانت في بدايتها هبّة شجعان، ونهضة أشخاص أصحاب مروءة وتضحية. لم يعقب إغلاق المخفر فوضى، ولم يتعدّ أحد على أحد. ولكن النظام تخلى مع الوقت عن باقي مسؤولياته في الضيعة التي باتت تسمى “محررة” وهو ما شجع قسماً كبيراً من السكان على الانضمام للحراك المعارض للنظام بعد أن أمنوا أن النظام لم يعد يتطلع لاستعادة الضيعة من الثوار.
وهكذا دخل في الثوار من ليس منهم، وانضمت إليهم تشكيلة من الناس مختلطة ومعقدة التركيب: من الطلاب الذين خسروا جامعاتهم خشية الاعتقال، إلى الموظفين الذين عجزوا عن قبض رواتبهم بسبب الحواجز، إلى مخبرين سابقين للأمن خشوا على أنفسهم انتقام الناس، إلى سلفيين حاقدين على النظام لمضايقته لهم في الماضي، إلى ضباطٍ أرسلهم النظام تحت غطاء الانشقاق ليفسدوا الثورة والثوار. وبالمحصلة عمّت الفوضى.
ترك “معلم الشاورما” السيخ وحمل سيفاً ليقيم به حدود الله على الكفار. انقضّ الخضرجي الذي بجانب الجامع على الإمام، نزع عمامته أمام الناس ثم طرده من المسجد لأنه صوفي زدنيق، والخضرجي لا يريد أن يستمع هو وأهل الحارة إلى خطبة الجمعة من فم واحدٍ زنديق. المخبر القديم للأمن أسس لجنةً أمنية الآن، وصار يعمل على ضبط الأمور. استهل جهوده بنصب حاجزٍ عند مدخل الضيعة وخطف محاسب التربية. وضعه في السجن و”رفعه فلق” وصادر منه حقيبةً فيها مئات الرواتب لريع الثورة. عبدو السكّير المشهور في الضيعة تاب إلى الله تعالى وانضم إلى كتيبةٍ من المجاهدين وكانت أول عمليةٍ مظفّرة له أنه دخل بلباسه العسكري الكامل وببندقيته الجديدة منزل جاره الغني الذي لم يشارك بالمظاهرات وأجبره على دفع مليوني ليرة “خوّة” لدعم الثورة. المجاهد قسّوم تكفّل باقتحام العيادة النسائية الوحيدة في الضيعة ليطرد الطبيبة السافرة المتبرّجة المنحدرة من ضيعةٍ مجاورة لأنه لا يريد أن يتداوى سكان الضيعة المسلمين عند مسيحيةٍ كافرة.
صارت الحياة بالضيعة أشبه بكابوسٍ طويل بلا نهاية. النظام يقصف ويقتل ويدمر من جهة، والثرثرية والرعاع والسوقة يفسدون ما بقي من رونق الحياة من جهةٍ ثانية. وما إن دخلت الثورة عامها الثالث حتى مات واختفى تقريباً كل الجيل الأول من الثوار والمتظاهرين، وتصدر المشهد زمرةٌ من تجار المخدرات، والمخبرين المتقاعدين، وفي أحسن الأحوال أشخاصٌ جيدو النوايا لكنهم سلفيين تكفيريين بغيضين، نغّصوا على الناس حتى عبادتهم ومساجدهم.
صار العمل العسكري ضدّ النظام “مهنة” وليس ثورة. وانضم عددٌ كبير من أبناء الضيعة للفصائل التي تأخذ رواتب بالدولار لتأمين معيشتهم. ووجدت مجموعات تنظيم القاعدة تربةً خصبة بين شباب الضيعة الذين أمضوا شطراً من شبيبتهم في المجون في كبريهات القرى المجاورة في الجبل لكي يتوبوا إلى الله تعالى ويتفقهوا بالدين، لكنها توبةً لم تكن لتكتمل إلا بخطف الطبيب والمهندس والمدرس والأديب والشاعر والمطرب لتأديبهم بالسجون، واستتابتهم على علمانيتهم، وتعليمهم أصول الدين، وأحياناً جلدهم في ساحة الضيعة كالبهائم.
انقلب النظام بشكلٍ مخيف وما عاد أحد يعرف حدّه. صارت الثورة فوضى لا تطاق، صارت تمرد الجاهل على العالم، والأحمق على الحكيم، والوضيع على الشريف، والفاجر على الفاضل، والزعران على كرام الضيعة وأصحاب الأدب والتربية العالية.
الضيعة بلا مخفر صارت غابة مخيفة، وكثيرٌ من الناس المسالمين تحولوا بغياب الشرطة إلى وحوش مفترسة. يرغب أهالي الضيعة اليوم بأن تتوقف الحرب بسرعة، وتُسحب البنادق من أيادي المتقاتلين، حتى لا يعودوا يرون المسدس إلا على خصر الشرطي، ويعود بائع الشاورما إلى مطعمه، والخضرجي إلى دكانه، ويتم إدخال المخبر والمتعاطي والمتنمّر والمتمرّد إلى مصحّات نفسية وأخلاقية تقيمها الدولة الجديدة التي ستنهض على أنقاض النظام الفاسد المتهالك.
خرّيج قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق. حاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة البعث في حمص، كاتب ومترجم من أعماله:
الفارس المزيّف- مجموعة قصصية.
أمريكا الامبريالية- (ترجمة عن الانكليزية)
عمل خلال الثورة السورية ناطقاً باسم لجان التنسيق المحليّة ومراسلاً لقناة أورينت وموقع كلّنا شركاء.
وفي عام 2014 عمل مراسلاً في وكالة مكلاتشي الأمريكية من اسطنبول.
يقيم الحمّادي في فرنسا منذ أواخر عام 2019 ويعمل ككاتبٍ وصحفي مستقلّ.