ثقافة

الحكاية الناقصة للحمار

حيدر محمّد هوري

(الأحلام , عادةُ الفقراءِ ومهنة ُالعوانسِ ..)

هكذا قال جدي

مشهد تقليدي

كعادتهِ الشتاءُ يراودُ شوارعَ القرى عن ترابها. يجعلها موحلةً وخاليةً من العابرين ، وكعادتهِ الليلُ في شتاءِ القرى طويلٌ وحافلٌ بحكايا الجدّاتِ، وأسرارِ العشاقِ على أسطحةِ البيوتِ وفي حظائرها النائيةِ.

كان الليلُ يحاكمُ النجماتِ التي بَدَتْ خجلةً وخائفةً فاقتصدت في بريقها، فالشتاءُ هذا العام مختلفٌ تمامًا. المدافئ نائمة. سكان القرية تملكهم الهدوء، فقد اعتادوا البرد بعد أزمة المازوت في البلاد وقد اعتادوا على الجوع  والموت والخراب. لقد أصبحت الحياة هاجسهم الوحيد والمفترض.

هي الحرب مكيدة الشياطين ولعبة الوحوش وقد صرنا من اللاعبين دون إرادتنا، أيتها الحرب خذي ما تشائين لكن لا تتنكري لنهيق الحمار.

عن حال الحمار على لسانه

في الليل، بعيدًا عن الناس، وسط الحقول تحديدًا، أشتم البشر بكلّ جرأةٍ وشجاعة لا يستطيع أحدهم أن يردّ بوجهي، أو أن يواجهني في معركةٍ عادلةٍ خصمًا لخصم. نهيقي صار يفزعهم ويرعبهم. شاع بين الناس: إن أرواحَ تلك الحمير التي أعدمتْ صارت تحوم في شوارع البلاد جميعها مطالبةً بالثأر. لستُ خارقًا أو متلبسًا بجن من الشياطين، لست كائنًا أسطوريًا، أنا مجردُ حمارٍ يقف على الحيادِ في هذه الحرب. أنا الناجي الوحيد من مجزرة الحمير.

الحكاية الناقصة للحمار

لم تتحرك الأواسط السياسية والإعلامية بشكل كاف للدفاع عنا بعد مجزرة الحمير. الصور عالقة في ذاكرتي كشريط لفيلم قصير لا تتجاوز مدته الثلاث دقائق، لكنه في حساباتي جرحٌ ينزُّ ولن يلتئم. كيف لي أن أنسى الجنود وهم يجردون أمي وأخوتي من سروجهم، أو أن أتجاوز عن وقاحة أولئك الجنود الذي حشو نصال حرابهم في فروج العذروات من الحمير! لم ير أحدكم قائدهم وهو يركلني على وجهي.. لم تسمعو شتائمهم. لم ولم..

والآن أنا الشاهدُ الوحيد عليهم، والشاهد الليلي على جرائمهم. لدي شريط طويل منها. شاهدت القتل والاغتصاب والتعذيب وشاهدت وشاهدت …إلخ، لكن ولأجل طفلة قدمت لي (طشتا) من (التبن) أسعى جاهدًا لحل هذه الأزمة وإنهاء الحرب التي فعلت ما لم تفعله حتى الشياطين. فبعدما كنت مشاهدًا نهمًا لمسلسلهم الطويل، سأحاول مساعدة البشر. لكن نهيقي لا يعجبهم، لذا يدّعون عدم فهمهم لمطالبي وحلولي، لغتهم ليست صعبة، هي بسيطة جدًا لكن عدم امتلاكي للأصابع وقف حائلا أمامي وأمام تعلم اللغة البشرية.

بدأت المؤامرات تحاك من حولي. تعرضت لأكثر من عملية اغتيال ونجوت.. من كان يريد لهذه الحرب الاستمرار كان يهاجمني على شاشات التلفاز وفي المواقع الإلكترونية، بالأمس سخر أحدهم مني وقال: كيف لمخلوق يمشي على أربع أرجل أن ينهي هذه الحرب؟

هذه العبارة أيقظتني من حلمي، حقًا لن أستطيع أن أفرق بين الأطراف المتحاربة بلا يدين كانتا تصفقان بالأمس القريب للسلطان وهو يصدر أحكامًا بالإعدام بحق الأبرياء مثلهم، ولن أستطيع مسح دموعي في حضرة السلطان لو قتل أحد أقربائه، بلا أصابع.

حقيقةً، هذه الحرب لن تنتهي، لكني حلمت كثيرًا أن أقف على رجلين لكي أحتضن تلك الصغيرة من كل قلبي، صدقوني لقد نسيت أهلي وأقربائي الذين ماتوا برصاصاتكم، لأجلكم. صدقوني حلمت أن أقف على رجلين لكي أسلم عليكم من كل قلبي لا لأضغط على زناد الموت.

ساعدوني لأقف مثلكم وسأنسى شتائمكم، وسأصفح عن سارق الرسن، وعن الأطفال الذي حشوا الفلفل الحار في مؤخرتي وعن الضابط الذي ركلني على وجهي، وعن الجندي الذي طاردني يوم مجزرة الحمير. ساعدوني فقد قالت عرافة من الغجر عندما يمشي الحمار على قدمين ستنتهي الحروب بين البشر.

وبدأ الحمار ينهق بصوت عالٍ ساعدوني.. ساعدوني.. كان على وشك الوقوف على قدمين.. لكن رصاصة غادرة  اخترقت صدغه. عندها صرخ الجندي :سيدي.. سيدي، لقد قتلت الحمار الذي قد هرب.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top