تضطرنا الحالة المترديّة التي وصلت إليها الحالة السورية للعودة إلى بدايات الثورة التي كانت لافتة بكل المقاييس، سيّما في شهورها الأولى، لدرجة أنّ عدوّها احتار في أمرها وأصابه العجز والاضطراب على مدى أشهر، هي ستة أشهر من السلميّة بحسب تصريح لرأس النظام. العودة إلى البدايات في حالتنا ليست على سبيل الوقوف على الأطلال، بل للبحث عن الأخطاء والوقوف عندها قليلاً، فلا شكّ وأنّ أخطاء كثيرة ارتكبت، مما دفع الأمور من تلك البداية التي كادت أن تكون مثالية لتصبح عند حافة هاوية، أو تكاد..
ليس المراد هنا إعادة الجدل القديم بين السلمية والعسكرة، وحول دور الحراك المدني وعلاقته بعمل الفصائل المسلّحة، فذلك جدل تؤجله اضطرارياً حالة الحرب المفتوحة على المدنيين، والقصف الذي لا يتوقف ساعة من نهار.. بل المراد هو إعادة تسليط الضوء على المشاريع التي طرحت نفسها بديلاً عن المشروع الأول للثورة، وأسهمت إلى حدّ بعيد في الوصول إلى الحالة الراهنة، حيث انقسمت الفصائل المسلحة بين بعضها البعض، فتقاتلت فيما بينها تارة، أو عملت بدون تنسيق متبادل، أو باستقلالية قاتلة سهّلت مهمّة أعدائها من المليشيات التي استقدمها النظام للقضاء على الثورة. لعلّ أكثر الخلافات التي يمكن أن نسجلها هنا هو الخلاف حول علم الثورة، وهو خلاف لم يسبق وأن أثير بهذا الشكل في ثورة أخرى. والخلاف حول العلم ليس خلافاً حول مجرّد قطعة قماش، بل عكس خلافاً حول هويّات، وتضارباً بين مشاريع انتهزت حالة الفوضى وفرضت وجودها على السوريّين تحت ذرائع مختلفة..
بدأ الخلاف مع ظهور الفصائل السلفيّة على الساحة، بشقيّها السلفي المحليّ والجهادي العالمي، ومع الفارق الكبير بين السلفية المحلية ونظيرتها العالمية في التعامل مع الواقع السوري، إلا أن كلتيهما أثارتا ريبة بخصوص مشروع ونظرة كل منهما لطبيعة الصراع الدائر، وتطلّعاتهما لمستقبل سوريا ما بعد سقوط النظام.. سيّما بعد أن تمكّنت الفصائل السلفيّة من بعض المناطق التي سمّيت بالـ “محرّرة” مما أتاح لها إعطاء نماذج مصغّرة عن مشاريعها المستقبليّة، وعن كيفيّة إدارتها للدولة، وكيفية فهمها لنزعة السوريين بعد الثورة نحو التحرر والديمقراطية.. أظهرت تلك النماذج التطبيقيّة المصغّرة تضارباً بين تلك المناهج وبين تطلعات نسبة كبيرة من السوريّين المنخرطين في الثورة، ما أدّى إلى ظهور سجالات لم تسهم في إغناء الحالة السوريّة، بل دفعت نحو صراعات متزايدة ضمن صفوف الطرف الذي يقف في وجه نظام الأسد، في حين أنّ جبهة النظام بقيت متماسكة إلى حدّ بعيد على مستوى الخطاب والسلوك، فالنظام لم يطرأ عليه خلال مرحلة طويلة من عمر الثورة أي طارئ يشي بحدوث أي تغييرات على مستوى البنية والمنهج، اللهم إلا بعض ما أثير حول سلوك الإيرانيين في دمشق وحمص، الأمر الذي بدا فعلاً استفزازياً أكثر من أن يكون عملاً ممنهجاً يحمل دلالة بعيدة..
تقتضي الموضوعية منا الاعتراف بأنّ صعود السلفيّة جاء ردّاً على تصاعد العنف الدموي من قبل النظام ومليشياته، وأنّ خطابها المتشدّد شكّل للثوار في لحظة ما دافعاً للمقاومة والصمود في وجه عنف غير مسبوق، بما يتضمّنه هذا الخطاب من تنظيرٍ يعمل على استيعاب المظلوميّة، وآلياتٍ تحوّلها إلى فعل ممنهج، وبما تمتلكه من قدرة على شرعنة دوافع الانتقام عند الفئة المظلومة، وبما تمتلكه من خبرة طويلة في مقارعة الجيوش المدرّبة وإنهاك الأنظمة.. ومع تفهّم كامل للتفاصيل آنفة الذكر، إلّا أنّ الموضوعية تقتضي الاعتراف أيضاً بأنّ هذا الصعود رافقه هبوط بكل ما عدا ذلك على صعيد الثورة.. إن كان على مستوى التأييد الخارجي، أو على مستوى التضامن الشعبي الداخلي. بل إنّ السلفيّة الجهادية كانت أحد أكبر العقبات أمام تمدّد الفصائل ذات الخطاب الوطني المعتدل، الأكثر شبهاً بعموم السوريّين، والأقرب إلى الخط العام للثورة ومطالبها الأولى، وعلى رأسها مطلب الحريّة على مستوى الممارسة السياسية..
وبالإضافة إلى الخلافات التي سببها التوجه السلفي الجهادي على مستوى وحدة الصف، فإنّها قدّمت الذريعة المناسبة لفصائل أخرى لم تشارك في الثورة أصلاً، ولكنها أصبحت عدوانية تجاهها، ومضت في مشروعها الانفصالي بذريعة أنّ الثورة لم تعد ملكاً للسوريين، وإنما لمشروع جهادي معولم لا يمت للسوريين بصلة.. وجدت هذه الفصائل الانفصالية، ممثلة بوحدات حماية الشعب الكردية، في المشروع الجهادي المبرّر الملائم لمشروعها الانفصالي، فكانت النتيجة ازدياداً في تفتّت المجتمع السوري وتوسّعاً في نطاق الحرب الأهليّة..
تبدو سوريا، و ربما المنطقة بأكملها، مع الإعلان عن التحضير للدخول السعودي التركي المباشر في الحرب الدائرة، على مشارف حقبة جديدة، قد تكون الأكثر خطورة، بعد أن توحّدت النيران الروسيّة مع نيران النظام ونيران الفصائل الانفصالية، فيما يبدو أنّها حرب الجميع على الشعب السوري، الذي بات المعني الأول بالموت والدمار، وآخر المعنيّين في تقرير مصيره.. ومع أنّ الأمر قد خرج من أيدي السوريين بنسبة كبيرة، إلّا أنّ عودة الفصائل المسلّحة إلى ما اتفق عليه السوريّون في البدايات، واجتماعهم على خطاب وطني معتدل، سيعيد إلى السوريين زمام المبادرة، وهذا لا يكون قبل عزل التوجهات الجهادية العالمية، واستيعاب السلفية المحلية ضمن كتلة وطنية..
قد يبدو الأمر متأخراً، وهو كذلك فعلاً، لكن المزيد من التأخير قد يعني مزيداً من التفكّك، ليس على المدى المنظور، وإنما البعيد أيضاً..
كاتب سوري