قصي الأحمد – الغوطة الشرقية
عشرات الجرحى داخل نقطة الإسعاف في مدينة دوما، بعضهم افترش الأرض، وآخرون لم يجدوا مكاناً غير الدرج، ومن حالفه الحظ جلس على السرير يئن بجانب جريح آخر..
بعض الجرحى يصيح من الألم، وبعضهم لا يقوى على الصياح! ومنهم من أرخى يديه وشخص بعينيه إلى السماء، فقد خرج من هذه النقطة وحدها ثمانية شهداء..
تعمّ حالة من الفوضى والدماء قد ملأت أرض المشفى، ولا زال المزيد من الجرحى يتوافدون إلى نقطة الإسعاف.
الأطباء والممرضون في حالة هلع لكثرة المصابين، فهي نقطة مجهزة لاستقبال 20 جريحاً كحدّ أقصى، وقد زاد العدد عن الخمسين. وطبيبان وخمسة ممرضين غير قادرين على احتواء كل هؤلاء.
تسود لحظة من الصمت، يتوقف الجرحى عن الأنين، والممرضون ينشغلون بما حدث.. الجميع يحدّق بذهول إلى الزاوية اليسرى من المشفى، وهم يشاهدون الحياة تخرج من رحم الموت!
إنها لحظة إخراج الطفل إياد الشواك من رحم أمّه.. الميتة!
يقول محمد العطار -الطبيب الذي أجرى العملية-: “وصلت إلينا أم زياد وقد فارقت الحياة نتيجة إصابتها بشظية اخترقت ظهرها واستقرت في قلبها. واكتشفنا أنها حامل. فوضع أحد الممرضين يده على بطنها ليشعر أن أحداً من الداخل يطرق بعنف، وكأنه يقول: “أخرجوني.. أنقذوني.. أنا لا زلت على قيد الحياة..”!
ويتابع د. عطار: “خطر في بالي حينها: هل يجب أن أعقّم بطن الأم قبل العملية؟! هل يجب أن ألبس القفازات؟! لم يعد هناك وقت.. تخطّيت كل هذه الأمور والأعراف الطبية، وتناولت المشرط وفتحت البطن، وأخرجت إياد في اللحظات الأخيرة، فشفتاه كانتا زرقاوين وقد شارف على الاختناق”.
بكى البعض فرحاً بإنقاذ إياد، والبعض حزناً عليه؛ فقد ولد يتيماً.. وإياد هو الجنين الأول الذي ينجو من أصل خمس حالات أسعفها د. عطار خلال العام الماضي لنساء أصبن وهن بفترة الحمل.
آخر حالات ولادة الأمهات المتوفيات جرت قبل أيام في 10-12-2015، حيث أصيبت إحدى الأمهات خلال القصف على مدينة دوما، وهي في الشهر السادس من حملها وفارقت الحياة، وقام الطبيب محمد بإجراء عملية لها وأخرج الطفل حياً من بطنها، غير أن الطفل لحق بأمه بعد بضع ساعات.
عن استشهاد الأم يروي والد إياد، يوسف الشواك: “ذهبت زوجتي وابني زياد البالغ من العمر 6 سنوات، يوم الأحد 6-12-2015 إلى سوق مدينة دوما لإحضار بعض الحاجيات والملابس لابننا القادم، فقد بقي لها سبعة أيام فقط للولادة. فاستهدفت قوات النظام السوق بقذائف الهاون، وأصابت إحداها زوجتي”.
ويكمل الطفل زياد ابن الشهيدة: “كنا نمشي في الطريق بجانب المحلاّت، فسقطت قذيفة وراءنا فأصبت أنا في يدي، وأصيبت أمي في ظهرها، ولكنها لم تقع مباشرة على الأرض، بل ركضت قليلاً ثم وقعت”.
كان آخر ما قالته الأم لزياد كما يذكر: “ماما زياد لا تخاف ولا تزعل.. أنا لح موت.. دير بالك على حالك” قبل أن تصمت، وترخي جسدها على الرصيف.
كان هذا اليوم عنيفاً على مدينة دوما، حيث ركزت قوات النظام قصفها على السوق الشعبي فيها، والذي غالباً ما يكون مكتظاً بالناس. وهي ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها هذا السوق، ولكنه المكان الوحيد الذي يلجأ إليه العديد من الناس للبيع والشراء والعمل لكسب قوتهم وقوت أسرهم، على الرغم من خطورة العمل أو حتى المرور فيه.
صدم أبو زياد عندما أحضرت سيارة الإسعاف ابنه ورآه مصاباً، وما زال “غير مصدق” لوفاة زوجته رغم أنه دفنها بيديه، ولم تكتمل فرحته بنجاة ابنه إياد، الذي تمنى أن يشاهده بعد سبعة أيام مع أمه، وتكون هي من يعتني به، ولكن نجاته “خففت عنه المصيبة” بحسب تعبيره.
يقول أبو زياد: “لا أدري كيف ستكون حياتنا بدونها، وكيف بإمكاني أن أعتني بطفلي؛ فمن الممكن أن أقدم لهما حنان الأب، ولكن من المستحيل أن أقدم لهما حنان الأم خصوصاً وأن لدينا الآن طفلاً رضيعاً، وهو بحاجة إلى عناية خاصة “.
إياد بلغ من العمر اليوم شهراً وعشرة أيام، ويبدو بصحة جيدة وستتولى خالته رعايته مؤقتاً رغم ظروفها الصعبة؛ فهي أم لطفلين صغيرين وبالكاد تقوى على تأمين احتياجاتهما، ولكنها ستحاول ما بوسعها لتعويض إياد عن فقد أمه، وملء الفراغ الذي سيحدثه غيابها، وتتمنى أن لا يكون لفقدها أثر سلبي عليه وهي التي وهبته حياته من موتها!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج