يوم الجمعة 25 ديسمبر 2015 كان يمكن أن يكون كأي يوم في الغوطة الشرقية؛ قصف ودمار.. ولكن كان هناك أمر غريب؛ فلقد تعودنا أن يكون القصف إما في وسط المدن لقتل الناس وترهيبهم أو على الجبهات للتمهيد العسكري أمام قوات النظام للاقتحام. ولكن هذه المرة كان مكان القصف في منتصف الغوطة بعيداً عن الجبهات والمدن، وفي منطقة تعتبر زراعية، ومن قام بالغارات أكثر من طائرة وفي نفس المكان بشكل متتال. وما هي إلا ساعات حتى تبين أن المستهدف هو الشيخ زهران علوش قائد جيش الإسلام والقائد العام للقيادة العسكرية الموحدة في الغوطة.
من الواضح أن العملية كانت مخططة ومدروسة بهدف تحقيق مصالح معينة، ولذلك لا بد من قراءتها من زاويتها السياسية، وإدراجها ضمن سياق الأحداث التي تشهدها سوريا لمحاولة فهم ما وراءها.
يبدو اليوم أن الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً باتت على قناعة بأن الصراع في سوريا وصل لمرحلة أصبحت آثارها السلبية تنعكس على الجميع، وهم بحاجة للوصول إلى معادلة سياسية تفضي إلى تخفيف حدة الصراع من دون أن تنهيه؛ بل تمنع فقط آثاره السلبية من الانتشار. ولعل الدول الإقليمية الداعمة للثورة ترى أن هذه المقاربة متفق عليها دولياً، وخاصة بين القطبين الأمريكي والروسي، وأن المدخل للوصول إلى ذلك يكون بتبني عملية سياسية تفضي إلى انتقال سياسي. لكن يمكنني الجزم أن المقاربة الروسية -وإن كانت تتفق من حيث المبدأ على ضرورة تخفيف حدة الصراع- ولكنها مختلفة في المدخل لتحقيق ذلك والنتائج المرجوة منه؛ فروسيا تدرك أن الدخول في أي عملية سياسة حقيقية يستوجب الاتفاق على نظام سياسي جديد، وبالتالي زوال النظام الحالي والذي ما زالت روسيا مصرة على المحافظة عليه. ولذلك عملت روسيا على مقاربة مختلفة، وهي بعث الروح في مبدأ التقسيم، وإن لم تعلن ذلك. وهي تدرك أن القوى الدولية الأساسية تقبل بهذا المبدأ، وما عليها إلا أن تعمل على خلقه على الأرض، من خلال إيجاد سوريا المفيدة والبعيدة عن الخطر، والتي تكون في أقل درجات التماس المباشر مع مناطق المعارضة. وبذلك يمكن لروسيا أن تقول للعالم إنها أوجدت المعادلة التي يقبلها الكبار والتي تخفف من حدة الصراع، وبالتالي يمكنها أن تطلب من القوى الدولية الضغط على القوى الإقليمية لوقف الدعم عن مناطق المعارضة وإقناع قوى المعارضة بالرضا بالكانتونات الجزئية. وبذلك تكون روسيا قد حافظت على النظام، وتجاوزت اعتراضات القوى الدولية.. وفي فترة لاحقة يمكن أن تتم معالجة موضوع هذه الكنتونات بعد أن تكون قد اندثرت الثورة نهائياً بغياب الأمل في إسقاط النظام.
وروسيا على يقين بأنها إن أرادت تحقيق مآربها فإنها تحتاج إلى مايلي :
1 – منع ظهور أي جسم سياسي موحّد يمثل المعارضة، لأن هذا الأمر -إن اعترفت به روسيا- يعني أنها اعترفت بوجود جسم سياسي سوري قد يقف في وجه مخططها، وبالتالي هي دائماً تطعن بشرعية أي جسم سياسي معارض، وتصرّ على أن من يمثل الدولة السورية هو النظام فقط.
2 – إضعاف قوى الثورة العسكرية بشتى الوسائل من خلال توجيه ضربات عسكرية لها، بغطاء محاربة داعش.
3 – العمل على إخلاء المناطق التي تعتبرها روسيا ضمن نطاق (سورية المفيدة) من أي قوى معارضة للنظام، للوصول إلى طاولة المفاوضات، وروسيا والنظام في موضع قوة لفرض ما تريد.
من ينظر إلى الخريطة السورية، يرى أن هذا الأمر يتمّ بعناية وفي خطوات متتالية. ولكن هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق والعاصمة دمشق في حالة اضطراب أو تهديد عسكري، لذلك يجب أولاً الوصول إلى تأمين العاصمة. وهكذا تم إخراج مقاتلي المعارضة من قدسيا والزبداني، والعمل على إخراج داعش من جنوب العاصمة.
لكن روسيا تدرك أن التهديد الحقيقي للعاصمة لا ينبع من هذه المناطق حقيقة، بل من الغوطة الشرقية أولاً وداريا ثانياً، خاصة أن القوى العسكرية الموجودة في الغوطة الشرقية لها ثقل عسكري وازن في المعادلة، وهذه المنطقة ما زالت تحوي أكثر من 500 ألف مدني. وقد باءت كل محاولات الحصار لإخضاع هذه المنطقة بالفشل. لذلك عملت روسيا على طرح مبادرة وقف إطلاق النار يتلوها هدنة مع الغوطة، إلا أن مسار الأمور منع حدوث ذلك. وكرد على ذلك عملت روسيا على شنّ حملة عسكرية هائلة القوة بتاريخ 13 ديسمبر شملت أكثر من 100 غارة جوية على جميع مدن الغوطة، لإرسال رسالة بما يمكن لروسيا أن تفعله إن لم تستطع تحقيق ما تريد. ولكن الغوطة استطاعت تجاوز ذلك اليوم، ليتم العمل من قبل النظام وروسيا على مسار جديد، وهو مسار إخضاع الغوطة من خلال قضم المناطق الزراعية ضمنها، للوصول إلى حالة تمكنها من فرض حصار مطبق يُرضخ الغوطة ويضعها أمام خيار الانتحار أو الاستسلام. ولعل معركة المرج الأخيرة في الغوطة الشرقية تندرج في هذا الإطار؛ فالنظام لم يخض معاركَ لكسب مناطق استراتيجية عسكرياً، بل استهدف أساسا البحث عن أضعف المناطق لقضم أكبر مساحة ممكنة. وفي نفس الوقت العمل على اغتيال قيادات عسكرية لتشتيت القوى العسكرية في الغوطة وشرذمتها؛ فقبل استشهاد الشيخ زهران بيومين تم استهداف اجتماع لقيادات عسكرية لعدة فصائل.
إذاً، يمكن القول إن عملية اغتيال الشيخ زهران علوش تندرج ضمن هذا السياق؛ فروسيا باتت ترى أن القوى العسكرية المعارضة في الغوطة قد تكون أكبر عقبة أمام تنفيذ مخططها الرامي إلى تقسيم سوريا والوصول إلى سورية المفيدة، ولكن يبقى السؤال الأهم هل ستنجح في ذلك؟
أعتقد أن الجواب يكمن في وعي قوى الثورة لهذا الأمر وخطورته، والعمل على إفشال هذا المخطط بكل الطاقات والإمكانيات المتاحة. فالمرحلة لا تحتمل التحزبات والفصائلية وغيرها، بل لا بدّ من جهد توحيدي حقيقي سياسي وعسكري. ويجب أن يرافق هذا الأمر دعم إقليمي، وخاصة من السعودية وتركيا. ولعلّ زيارة أردوغان الأخيرة للسعودية تؤشر إلى أن هناك إحساس إقليمي بأن الأمور تسير باتجاهات خطرة، وأن الأيام القادمة لا بد أنها ستحمل في طياتها ملامح الصورة الحقيقة لما ستؤول إليه الأمور.
كاتب وصحفي من داخل الغوطة الشرقية – ريف دمشق