يفتقد تاريخنا السياسي منذ الانقلاب العسكري الأول بعد الاستقلال، إلى وجود سلطة شرعية منتخبة ديمقراطياً. لكن غياب السلطة الشرعية والمنتخبة، أدى بشكل تلقائي، وكنتيجة له، إلى غياب المعارضة الشرعية والعلنية أيضاً، وبالتالي غياب الحياة السياسية وتداول السلطة. ومن المعروف أن غياب السلطة الشرعية الذي كان واقعاً مضطرباً وغير مستقر قبل استلام حافظ الأسد للسلطة، أصبح شِرعة مستقرة بعد استلامه، الأمر الذي حوّل الاستقرار ذاك إلى أبدية مزعومة وموهومة، لم تنتج بديلاً عن الأبد إلا حرق البلد.
تاريخنا السياسي المتشكّل على النحو الموصوف أعلاه، قام على قائمة واحدة، أو بُعدٍ واحد، هو السلطة. لكن السلطة؛ وكأي سلطة وحيدة ومتفرّدة في الحكم، سيطرت على معنى الوطنية و”الفضاء الرمزي” للوطنية السورية، بأن قدمت نفسها ممثلة للحقيقة وللقضايا الوطنية الأساسية بالنسبة للسوريين، مثل قضيتي فلسطين والجولان المحتلتين، فأصبح الاعتراض عليها هو اعتراض على “الحقيقة” التي تمثّلها، والمعارض لها هو خائن بالضرورة، وليس خصماً سياسياً في حقل السياسة.
أما المعارضة التي كانت غائبة ومغيّبة عن الشغل العلني والعمل الشرعي، فقد تبنَّت خطاباً مقلوباً عن خطاب السلطة، يُخفي ويَخجل بالكلام عن الرغبة في احتياز السلطة؛ مع أنه الهدف الطبيعي لأي عمل سياسي، ويُظهر الصراع السياسي عليها، وكأنه صراع على الحقيقة ذاتها. فالسلطة المستبّدة تخدع الناس وتقدم خطاباً أيديولوجياً (والأيديولوجيا قناع زائف) يخفي حقيقتها غير الوطنية، بالشعارات الوطنية والقومية، وبالتالي تصبح الوطنية الحقيقية والقومية الحقيقية موجودة عند المعارضة.
الثقافة السياسية التي انبنت على تلك الأسس، والتي مازالت سائدة حتى اليوم، تشاركت فيها السلطة مع المعارضة بشقيها الإسلامي والعلماني، لكن مع وجود فارق مهم، هو أنه في الوقت الذي كان فيه الإسلاميون علمانيين في براغماتيتهم، كان العلمانيون إسلاميين في نزاهتهم “المعلنة” وترفعهم شبه المقدس عن البراغماتية. فالطريق إلى السلطة، المبني على المصلحة السياسية والتجييش الشعبي واللعب على موازين القوى وما يحتاجه ذلك من براغماتية وإزاحة للأخلاق والحقيقة وتجييرهما مصلحياً، كان أكثر وضوحاً لدى الإسلاميين منه لدى المعارضة العلمانية ذات الأصول اليسارية، حيث تبنى هؤلاء الأخيرون خطاباً أخلاقياً مبنياً على الحق والعدل والنوايا الحسنة والوطنية المجردة، وهو خطاب أقرب إلى الزهد بالسلطة رغم كونه مليئاً بالشعور الذاتي بأحقية الحلول محلها.
وبينما وصل الإسلاميون إلى حد الصراع المسلح مع السلطة في الثمانينيات، فضّلت المعارضة العلمانية الابتعاد عن الحزبية المسلّحة والاكتفاء بالمعارضة السياسية، وكأنهم يعارضون نظام حكم لسويسرا وليس لسوريا الأسد، وبينما كانت المعارضة العلمانية أقرب للنظام في إخفاء حقيقة رغبتها بالسلطة، كانت المعارضة الإسلامية أكثر ميكافيلية وأقرب للنظام بإسلوب الوصول إلى السلطة.
النظام من جهته كان أقرب للإسلاميين في أسلوب الحكم مهما كانت وسائله منحطّة وعنفية، لكنه أقرب للعلمانيين في خطاب الحق والحقيقة والعدالة والوطنية المجردة والشعور الذاتي بأحقية الوجود، وهذا الجمع بين الانتهازية والبراغماتية المميزة للإسلام السياسي من جهة، والخطاب الزهدي المثالي المميز للمعارضة العلمانية من جهة أخرى، أعطاه الأفضلية الواقعية على الثنائي المعارض، ليسحق كلا المعارضتين، ويضرب كلّاً منهما بدلالة الأخرى.
لذلك نجد أنه سابقاً -مثل اليوم- وجد الكثير من المعارضين أنفسهم في خندق واحد مع النظام، وإنْ من مواقع متباينة، فالعلماني “الصراطي” كان يجد نفسه مع النظام ضدّ الإسلاميين والإمبريالية (بعد أن أكل المقلب)، والإسلامي “الانتهازي” كان يجد نفسه مع النظام ضدّ علمنة الدولة وحيادها الإيجابي تجاه مكوناتها.
في المحصلة، وبعد انفجار الثورة السورية، ثم انفجار العنف وتصاعده إلى مستويات لا معقولة، لم يبق في الساحة بشكل حقيقي وفاعل، سوى النظام والإسلاميين على تنويعاتهم، أما المعارضة العلمانية الخجولة، والمعتصمة ظاهرياً بحبل السياسة “النظيفة”؛ حيث لا يوجد سياسة نظيفة وبلا أوحال، فقد بات واضحاً أنها إن لم تتخلص من ثقافتها السياسية الخجولة وتبني مشاريع سياسية واضحة الأهداف وعلنية المبادئ، فإن مصيرها مثل مصير كل الخجولين بما لديهم.. أي الخصاء السياسي والعجز التكويني عن الفعل والتأثير.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.