مانيا الخطيب
بما أن طغمة الحكم في دمشق تخوض معركة وجود، خصمها في هذه المعركة هو أهل سورية بكل تنوعاتهم وكل أماكن سكناهم، فإن والوها، وخضعوا لها، منّت عليهم بعدم قصفهم بالطيران، وإن لا، فالبراميل المتفجرة تنتظرهم في هذه الحرب المجنونة، التي يشترك فيها أصدقاء الشعب السوري وأعداءه على السواء، كل من زاويته التي وضعته فيها خريطة السياسة الدولية والإقليمية. لذلك فإنه ليس من حدود لإجرام هذه الطغمة، وليس هناك من خطوط حمر ولا محرمات ولا قعر لانحطاطها الأخلاقي. ونتناول هنا السيناريو الذي يدور حالياً في محافظة السويداء كمثال.
عبرت السويداء وأهلها عن انخراطها بثورة الكرامة السورية بشكل لم يطل قاع المجتمع بشكل واسع، ومع ذلك أفشلت محاولات لا تنته للإيقاع بين أهل درعا وبينهم، ثم بعد ذلك أفشلت محاولات اشعال الفتنة مع بدو السويداء. وذلك ضمن البوصلة الوطنية الانسانية التي عملت عليها القوى المحلية في المدينة.
وذلك حتى ظهور ما يسمى داعش، التي لا يخف على أحد أنها بشكل أو بآخر أحد أذرع الطغمة ضمن سياسة الفلتان الأمني كأحد الأوراق التي تلعب بها في تكتيتاها الحربية على الشعب السوري.
بدأت بعيد ذلك، ظاهرة مشايخ الكرامة كواحدة من أعمق حركات التمرد الشعبي الذي وصل إلى أعمق نقطة في قاع المجتمع، وبدأ يستمد قوته من الدفع الشعبي الذاتي، إلى أن تلقى ضربة معنوية خانقة بعملية مخابراتية شديدة الحرفية أودت بحياة المرحوم البلعوس ومن معه، وطعموها بضربة معنوية أليمة لم ينته وجعها حتى اليوم بتفجير المشفى. وتم فبركة سيناريو تافه وضع فيه وافد أبو ترابي كبش فداء، في قصة يسخر منها الصغير قبل الكبير.
المحافظة “الآمنة” إلا من أزمة المحروقات الطاحنة وارتفاع الأسعار الجنوني، ولكن لم تبرأ من سلسلة من الأعمال الترهيبية كلما اقتضت الحاجة، حسب تقديرات الطغمة الاستخباراتية من الظاهرة “البلعوسية” التي سببت لهم ذلاً حقيقياً .. لذلك كان لا بد من تحضير سيناريو يحاول أن ينزع أي غطاء عن شيوخ الكرامة، وأن يحاول أن يجتث شأفتهم إلى غير رجعة، ولأن الظاهرة عميقة ومتغلغلة في أحشاء المجتمع، وخطورتها الفادحة على أجهزة المخابرات أنه ليس وراءها لا حزب حتى تشيطنه ولا هيئة حتى تفتتها من الداخل بأساليبها العديدة، بل إنها تمرد شعبي لا يحمل أي مرجعيات سوى النخوة، وصراع البقاء.
ولأن النخوة وصراع البقاء عاملين شديدا الخطورة على طغمة من النوع الذي يحكم في دمشق، كان لا بد من تكتيتك استخباراتي جديد يتناسب مع هذه الدرجة من التهديد الوجودي.
وهكذا بدأت القصة مؤخراً منذ حوالي الشهر بتغييب قيادي حزبي في المحافظة بطريقة غامضة وملتبسة، وهو شبلي جنود رجل أفنى حياته في خدمة الطغمة، وبنفس الوقت في حرب الوجود التي يواجهها السوريون، كان له دور يسعى فيه إلى إصلاح ذات البين، وهو في النهاية الانسان الجبلي الريفي الذي أنشأ أسرة محترمة نعرف أولاده من أيام المدرسة نموذج عن الاجتهاد والتهذيب، لهذا فهو مناسب من وجهة نظر استخباراتية، للتضحية به، وبالتزامن مع غيابه التفتيش عن شخص شريف لتلفيق التهمة له، وضرب عشرات العصافير بحجر واحد في بيئة شعبية منهكة حد الانهيار، يمكنها تلقف أي كذبة مهما كانت واضحة، لأنها أصبحت تعاني من خلل وجودي عصي على الإصلاح.
فوقع الاختيار على الطبيب الجراح عاطف ملاك المشهود له بالوفاء لإنسانيته وأهله، واعتقل منذ قرابة الأسبوع، في وضح النهار وأمام كل الناس حيث لم يتحرك أحد لمساعدته. ولكن حينها لم تكن اللحظة مناسبة للافراج عن السيناريو التعيس.
إلى أن أعلنت فعاليات المحافظة الأهلية عن نيتها تنظيم اعتصام للمطالبة بكشف مصير عدد من المغيبين. وقبل يوم واحد من الاعتصام، أطلقت خفافيش المخابرات أكاذيبها اللعينة وكشفت فقط حينها أن الرجل السبعيني المغيب شبلي جنود قد لقي حتفه، وأن الدكتور عاطف ملاك له يد في غيابه، وقيل في الاتهام الملفق أن هذا جرى بالتعاون مع “مشايخ الكرامة”..!
وهنا لا يمكن لجريمة شنيعة تطال رجل سبعيني مثل شبلي جنود، وهو قيادي وليس شخص عادي، أن تمر بدون أن تهيئ الجو لاشعال فتنة، حيث أن ذويه من الموالين للطغمة الحاكمة، وهذا مأزق حقيقي،لأنه لا يمكنهم بحرية التصريح أن هذه الأكاذيب غرضها اشعال الفتنة، وإحداث اقتتال داخلي في المحافظة بعد أن فشلت محاولات الاقتتال مع الحوارنة أولا ومن ثم مع البدو لاحقاً. لأن عقوبتهم ستكون حينها مضاعفة.
وهكذا بدأت المطالبات الممنهجة وبعد الحصول على مباركة وتفويض من قيادات في الجبل (لضمان أكيد لوقوع الفتنة) باقتلاع ظاهرة “مشايخ الكرامة” من جذورها، ومن عقول الناس وقلوبهم، ولكن هيهات هيهات .. كيف لدوي الانفجار الذي أنهى حياة أهلنا وأخوتنا والتي لم تهدأ نفوس ذويهم بعد، أن ترضخ لهذا الطلب التعجيزي؟
وبهكذا سيناريو، وبهكذا وقاحة في محاولة واضحة يائسة لاشعال الفتنة، تبدو ملامح نهايات شنيعة لواحدة من أفظع العقليات المخابراتية التي حكمت سورية لعقود .. بدأت نهاياتها في واحدة من أقسى الملاحم الانسانية في استرجاع الوجود السوري.
هلسنكي 6.11.2015
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج