ثقافة

المُخبِر / نيرمينة الرفاعي

يخبّئ ابتسامتهُ الفارغةَ من أسنانها وراء يدٍ ترتجف، وعيونه الدائرية تمسحُ أعمدة الشارع المائلة وشبابيكه الموصدة، يعدّ خيبات العشّاق على أطرافِ المقاعد كلّ مساء، ويسردُ كلّ ليلة حكايات أهل المدينة لأذنٍ لا فمَ لها ولا وجهَ ولا عنوان، قطط الحارة تلعق البقايا عن غطاء علبة لبن فارغة، ثم تقفز إلى أحضان الثكالى المحتفيات بحزنهنّ ودمعهنّ وبشقّ الولادة في أسفل ذاكرتهنّ، عيونه الدائريةُ تقفز أيضًا إلى كلّ حضن، وإلى كلّ علبةٍ فارغة، بائعُ غَزْل البنات، يحملُ قطنه الملوّنَ فوق ظهره، والعيون الدائرية تنتف كلّ غيمةٍ زهريّة لتنسابَ ذرّات سكّرٍ دبقةٍ فوق لهفةِ الأطفال وضحكاتهم وحقائب مدرستهم، عجوزٌ يحمل جريدته الملأى بوظائف شاغرة منذ سنة 1960، والدوائر تلاحقه وترسم خطوطها المقفلة حولَ روزنامةِ عمره، يومًا بيوم، شيءٌ يشبه الموسيقى يخرج من حنجرة شابٍ يحلم بالسفرِ إلى بلادٍ لم يرها إلّا بالأفلام، تقبضُ عليه الدوائر المزروعة في الهواء قبل أن تنضجَ الأغنية، وقبل أن تكتسبَ الحنجرةُ لغتها، وقبلَ أن يكتشف أينَ المطار، ذاتُ الرموش الطويلة توزع “السنونية” على أبوابٍ أكلتْها أقفالُها، تسبّل عيونها لكلِ عجوزٍ سقطت أسنانه، وتوزعُ ألوانَ القمح بشارة طفلٍ سيضطر يومًا إلى العضِّ على أصابعه وليلِ وسائده كي لا تسمع همسهُ الدوائر، علبُ الزيت والسمنة مقصوصة الرأس تقف بفخرٍ ناصبةً رائحةَ ورق الخريف على أطرافِ الشبابيك والشرفات، حوافها مستقيمةٌ كالسيف ومعدنيةٌ كرصاصةٍ مصوبةٍ نحو عيونه اللعينة، هو لا يموت، فقط يزداد ارتجافُ يده ويلتصق أكثر بظلّهِ المعتم الغارقِ في الجدار.

رائحةُ أوراق شدّة، اصطدامُ الملاعقِ بحواجزها الزجاجية، تشبّثُ الألوان بصحنها المدعوك مرارًا بإسفنجة قديمة، والجالسون في المقهى عاجزون عن إيجاد مقابض لكاسات الشاي المحبوسة في دائرةٍ كبيرة ويدٍ ترتجف وظلٍّ معتم في الجدار، لا مقاهٍ في مدنٍ عيونها دائرية، النعنع يختنقُ في كاسات بردت قبل أوانها، وكلّ الأوراق تسخرُ من أصابع نسيت كيف تقامر بحزنها كي تربح شيئًا من الفرح، دوائرٌ منصوبةٌ في الهواء، مزروعةٌ بين مطبّات المدينة، مدسوسةٌ في دفاتر طلاب الصف الأول الابتدائي، ملفوفةٌ حول خواتم الأزواج وطوابعِ البريد على أوراق انفصالهم، مستلقيةٌ بين عقدات ضفيرة صبيةٍ تعشقُ لأولِ.. أو آخرِ مرّة.

في مدنِ العيون الدائرية أزرارُ القميص تشدّ على قماشها، الحذاءُ يحفظ قدميه ويتجاوزُ حفرَ طريقه دون امتعاض أو تأفّف، والرصيفُ يغيّر ألوانه تبعًا لفصل السنة، أو تبعًا لألوان (نُمَر) السيارات المارّة، أتعلمُ ما شكل العيش في مدينةٍ كهذه؟ أتعلمُ ما صعوبة العيش في مدينةٍ تتكوّر جدرانها على بعضها كلّ ليلة كجنين يرفضُ مفارقة رحمِ أمّه؟ أتعلمُ ما شكلُ العيون من حولكَ على أيّة حال؟ أنجحت في إنقاذِ عنقك من طوقِ الدوائر السوداء حتّى الآن؟ الجدرانُ ليست إلا ظلالَ العيونِ الغائرةِ في ثقوبها، أيعقلُ أنَ المدنَ بلا مخبرين لا جدرانَ فيها؟ وكيف يعيشُ مخبرو مدينة مبسوطةٌ شوارعُها ككفٍّ في يدِ غجريةٍ تقرأ المستقبل؟ أين تضعُ عيونُهم نفسَها في مدينةٍ بلا جدران؟ أين تتكئ أصواتُهم؟ وماذا يفعلون ليلًا بفراغِ جيوبهم ورصاصهم من القصصِ والحكايا؟ وما مصيرُ أهلِ المدينةِ يا ترى؟ من ينتفُ السكّر عن غيومهم الزهرية؟ ومن يلملمُ الخريفَ عن علبِ زيتهم؟ وكيف تحدّدُ أحذيتهم مقاسَ طريقها؟ أسألكَ ما أسألك وأنا أدفعُ بأصص الورد المعدنيّة من على الشرفة، وأوزّعُ أوراق الشدّة على الشحّادين المحبوسين بدائرةِ انتظار اللون الأحمر على الإشارة الضوئية، وأديرُ عجلة اليانصيب مراهنةً على تغيير شكلِ المدينة قبل حلولِ الصباح، ثم أنامُ ملء تعبي حتى المساء!

To Top