لسلم الأولويات (hierarchy) وظيفة هامة جداً، في العمل السياسيّ والثوريّ، من أجل تحقيق الأهداف العامة تراكمياً لا بالضربة القاضية. وهو هام من حيث وضعه وترتيبه وبوصلته. وهام أيضاً من حيث تغييره واستبداله. إنَّه كالبوصلة التي تُرشِد الملاحة البحرية والجوية والصحراوية، فإن كانت البوصلة صحيحة وصل إلى غايته، وإن كانت خاطئة ضاع. ولذلك يترتب على التشبث بسلم الأولويات أو التفريط به تداعيات استراتيجية كبيرة، يمكن أنْ تَصبّ في جعل الشعب السوري الرقم الأصعب في مبادرات الحل ومعادلاتها بحالة التشبث، ويمكن أنْ تَصبّ بالعكس؛ أي في رمي الشعب السوري على قارعة الطريق ومزبلة التاريخ بحالة التفريط به واستبدله بأولوية الآخرين. لهذا يجب على النخب السوريّة التي تمثِّل الشعب السوري تركيز كبير الاهتمام على سلم الأولويات؛ لأنه يشكِّل ما يعتبره “أرسطو” السبب الغائي في الفعل الثوري، والذي بدونه يبقى ناتج الفعل الثوري ناقصاً يعيش حالة خبط عشواء.
فعلى مدار ثلاثة وخمسين شهراً، وضع الشعب السوري سلم أولوياته استناداً إلى مصلحته التي يُفترض أنها لا تعارض مصالح الشعوب الأخرى. واختار الحرية والكرامة اختياراً مبدئياً لا رجعة عنه، من خلال إسقاط نظام الاستبداد ورحيل رموزه وإقامة نظام ديمقراطي. وقد تجاوز الشعب السوري بسلم أولوياته هذا، حرتقات إصلاح النظام والعمل من خلاله لتحسين شروط عبوديته، إلى إسقاط النظام وتغييره وإقامة بديله الحرّ.
وكأي عمل إنساني، تمرٌّ الثورة السورية بمراحل متعددة عبر الزمن، وهي الآن تمرٌّ بمرحلة “الثورة المضادة” التي يعمل عليها المجتمع الدولي والإقليمي، من خلال تغيير سلم الأولويات الخاص بالحرية والكرامة وفرض سلم أولويات جديد خاص في محاربة الإرهاب الداعشي بدون محاربة الإرهاب الأسدي، وبالتالي تحقيق الانتقال من الشعب يريد… إلى المجتمع الدولي والإقليمي يريد…
ولدينا وقائع ثلاث تدعم الثبات على سلم الأولويات وتجعل من الشعب السوريّ الرقم الأصعب في المعادلة: أولها التغير مع الزمن، وثانيها توزع الحل في سوريا واقعياً، وثالثها اجترار المبادرات الواهمة.
فالتغير مع الزمن نوعان وكلاهما يحصلان بغير إرادة؛ واحد منهما يرتبط بـ”الفوضى”، والثاني يرتبط بـ”التغذية الخلفية الراجعة” (Feed Back). فلقد انكسرت بفضل “الفوضى” أربعة احتكارات كان النظام السوريّ يحتكرها وهي: السلاح والقضاء والثروة والمعلومة. فنجد انتشاراً للسلاح وتبعثراً في شرعيّته، وتكثر المعلومات من مختلف الجهات وتحتاج لمن يُنظِّمها، وتنتشر المحاكم الشرعية في كثير من المناطق السوريّة، ويتم استثمار الموارد الطبيعية والمعابر الحدودية من جماعات مخالفة للنظام ومعارضة له.
وكذلك نلاحظ تغيراً عند الموالين للنظام وعند الأطراف الدوليّة والإقليميّة الداعمة له، ولكنه ناتج عن “التغذية الخلفية الراجعة”. وهو تغير ينتج عما يرجع من الفعل الثوري إلى المراقب، فيعيد تأقلمه وتلاؤمه وتعلمّه ويعدِّل سلوكه. ومثال ذلك قبول الروس برحيل الأسد بعد تشدد بإبقائه، أو برفع شعار “الشعب يريد إعدام سليمان” عند الموالين للنظام بعد أن كانوا يرفضون هذا الشعار بالمطلق، أو قبول المعارضة السورية بمشاركة إيران في الحل في سوريا بعدما كانت مشاركتها مرفوضة قطعاً، أو تراجع إيران عن تشددها السابق. وهذا معناه أنهم يعيدون النظر في تحركاتهم واتجاهاتهم وقناعاتهم لتستجيب بمرونة مع كل موقف على نحو جديد، فيعدِّلون عملياتهم أثناء السيرورة (العمليّة، التحوليّة) في المتجه العام لأولوية السوريين.
أما عن توزع الحل في سوريا واقعياً فنجد أنَّه يتوزع بين عدة أطراف بنسب مختلفة وغير قابلة للقياس. وثمة من يعتقد ويتوهم أنَّ النسبة الأكبر من أوراق الحل بيد طرف ما من الأطراف الدوليّة أو الإقليميّة. ويغيب عنهم أنَّ الشعب السوري الواحد أو المتشظي يملك نسبة من أوراق الحل تكاد تشكَّل الرقم الأصعب في معادلة الحل السورية بدليل عدم قدرة جميع الأطراف على الحل بدون أولوياته. فمن حسنات وحدة الشعب السوري اختيار الحرية والكرامة وعدم الاستجابة لطلبات الآخرين، ومن حسنات تشظيه عدم قدرة الآخرين على فرض أجنداتهم وأولوياتهم عليه بسبب تشظيه نفسه. والمطلوب سورياً إذاً، التمسك بهذه الأوراق وعدم التفريط بها، وتحويلها إلى استراتيجية تقترب من آمال السوريين بالخلاص من القتل والدمار واللجوء والاستبداد والإرهاب خلاصاً ليس نهائياً وإنما يضعهم على سكة فاعليتهم كبشر.
أما عن اجترار المبادرات وتتويجها بمؤتمرات فحواها واحد، ويرتبط بمحاربة الإرهاب والقضاء على أمل الحرية والكرامة. فلنلاحظ أنَّ كثرة المبادرات هي دليل ضعف وعجز وليس دليل قوة وصحة. فلو كانوا أقوياء كما يتخيلهم البعض لكانوا حلوّا حلاً يتماشى مع مصالحهم منذ زمن. ولكنهم ضعفاء بالنسبة لصمود الشعب السوري.
وهنا يبرز سؤالان يطرقان الأذهان للتفكير بإجابات لهما من “خارج الصندوق”؛ بمعنى الخروج عن الإجابات الدارجة التي نجترها: أولهما هو لماذا لم يتوقف القتل والتدمير والتهجير الذي يقوم بهم الإرهابي الأول (النظام السوري) على الرغم من كثرة المبادرات الدوليّة والإقليميّة والمحليّة في هذا الصدد؟ وثانيهما هو لماذا لم ينتصر طرف ما من الأطراف الدوليّة أو الإقليميّة أو المحليّة على الرغم من قناعة الكثيرين بأنَّ أوراق الحل بأيديهم؟ وجواب السؤالين واحد وهو عدم قدرتهم بالنسبة لواقعهم ولأولويات السوريين.
صحيح أنَّه لم تنجح أولوية السوريين بالحريّة والكرامة بإسقاط النظام ورحيل الأسد وإقامة نظام ديمقراطي حتى الآن ولكن العملية مستمرة، وصحيح أيضاً أنَّه لن تنجح أولوية الآخرين في محاربة الإرهاب بدون أولوية الحرية والكرامة. لذلك على السوريين إبقاء عيونهم على ما يحدث ميدانياً وليس فندقياَ.
وطالما أنَّ الحل يكمن في إنجاز أولوية السوريين، سنجدهم يقدَّمون في سبيلها التضحيات الأسطورية. وستعمل الفوضى والتغذية الخلفية الراجعة فعلها. فالشعب السوري بالإضافة إلى أنه منبع الأولويات وبوصلتها فإنه الوحيد القادر والقابل على ردم الهوّة بين سلم أولوياته وبين النتائج المتحققة بالفعل.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.