في مادّة سابقة لي نُشرت في العدد الأخير من مجلّة “طلعنا عالحريّة” بعنوان “الموقف من الغرب بين الإسلاميين والعلمانيين”، قمت بتصنيف الموقف من الغرب ضمن ثلاثة محاور: موقف العلمانيّين، والموقف الإسلامي المتشدّد، والموقف الإسلامي المعتدل.. وقد أُخذ على المقال الوقوع في التعميم من جهة، وتزكية الموقف المتشدّد من جهة أخرى..
أمّا تزكية الموقف المتشدّد فهذا لم يحدث، فالمقصود من الكلام كان الإشادة بوضوح عموم التيّار المتشدّد وانسجامه مع نسقه الفكري في موقفه المتشنّج من الغرب. وهذا ما يجعل عمليّة نقده وتبيان العيوب في مواقفه وتصوّراته أسهل بكثير من مهمّة تبيّن مشاكل خصومه.. وللأمانة، فإنّ هذا التيّار حصل على النصيب الأكبر من النقد ومن جميع الأطراف، وجرى تحميله مسؤولية الفشل الحضاري، وهو يتحمّل مسؤولية كبيرة فيه بطبيعة الحال، بينما لم ينل خصومه معشار النقد الذي طاله في العقود الأخيرة، وهم يتحمّلون مسؤوليّة كبيرة أيضاً على صعيد الفشل الذي نعاني منه جميعاً..
أمّا المأخذ الآخر على المقال، والخاص بتعميم الانتقائيّة في اختيار النصوص تماشياً مع الذائقة الحضارية للغرب عند تيّار الاعتدال فهو مأخذٌ محقٌّ تماماً. وعلى سبيل الدقّة، علينا أن نقرّ بدايةً بأنه لا وجود لما يسمّى تيّار اعتدال أو تيّار تشدّد، وإنما الموجود على الساحة الفكرية مدارس فكريّة متداخلة فيما بينها، فهناك مدرستان على طرفي نقيض هما: مدرسة السلفية الجهادية ومدرسة اللا عنف، وبينهما مدارس متنوّعة تتقاطع معهما، كالسلفية التقليديّة والإخوان المسلمون والمدارس الصوفيّة.. وتيّار التديّن الشعبي العام الذي يتداخل بدوره مع ما سبق ذكره من مدارس وتيارات.. ولا شكّ أن من بين أصحاب الفكر المعتدل من لا يمارس الانتقائيّة (في قراءة النصّ والتاريخ) أو لا يتقصّد هذه الانتقائيّة على أقل تقدير. ومن بين المحسوبين على التشدّد الديني من لا يعاني تشنّجاً مطلقاً تجاه كل ما يصدر عن الغرب..
إذاً لا يوجد تيّار اعتدال بحدود واضحة ومجمع عليها بين من يصنّفون أنفسهم بالمعتدلين. لكنّني، وفيما يخصّ جزئيّة الموقف من الغرب تحديداً، وجدت أنّ أصحاب الانتقائيّة في قراءة تاريخ الغرب، والداعين إلى التركيز على الجوانب الإيجابيّة في هذا التاريخ، ينسبون أنفسهم إلى تيّار الاعتدال الديني الداعي إلى مواكبة العصر ونبذ التطرّف وإعادة قراءة الإسلام قراءة عصريّة. والملاحظ أيضاً أنّ غالبيّة طروحات هذه الفئة تنضوي على جلد الذات وعدم التركيز على الجوانب الإيجابيّة التي يمكن البناء عليها في ثقافتنا، وابتعادهم عن المفاهيم الدينيّة التي تتصادم مع بعض قيم الغرب والتقليل من أهميّتها، والانسياق مع وجهات النظر الغربيّة وتصوّراته للحياة والتاريخ.. ليس المقصود إذاً بالانتقائيين عموم المعتدلين، بل فئة منهم، والهدف الأول من هذه المقاربة هو الحث على إعادة التفكير ببعض الثغرات التي يعاني منها فكر الاعتدال، أو بعض النواحي التي لم يتم الاشتغال عليها ثقافيّاً، ممّا يفسح المجال لنشوء هذه النظريات الشاذّة من رحم الاعتدال نفسه.. يُفترض تطبيق المنهجيّة ذاتها على الفكر السلفي لتحديد الثغرات التي يبني عليها فكر التطرّف أساسيّاته النظرية.. فمنهج التطرف الفكري واحد في كلا الحالتين، مع الاختلاف في النتائج..
تجمعني بأصحاب الفكر المعتدل قرابة فكريّة قائمة على الكثير من الأسس المشتركة، بعكس أصحاب الخطابات المغلقة التي يكاد لا يجمعني معها شيء، لذلك أجد نفسي معنيّاً بالحديث عن اختلافي مع كثير من المعتدلين حول الموقف من الغرب، فبعض الطروحات، كما سبق وذكرت، أصبحت أقرب إلى جعل القيمة الغربيّة سقفاً أخلاقيّاً، ومعياراً يقاس عليه الجميل والقبيح، والسلبي والإيجابي، والتقدّم والتقهقر.. وبعض قراءاتهم للنص القرآني وللتاريخ الإسلامي باتت، من حيث لا يدري أصحابها، جزءاً من تصوّرات الغرب عنّا، وعن عالمنا..
تتحمّل النخب والمرجعيّات المعتدلة جزءاً كبيراً من المسؤوليّة في هذه الحالة من الشطط وضياع الهويّة الفكريّة عند بعض الذين ينسبون أنفسهم إلى تيّار الاعتدال، ربما بنفس درجة المسؤوليّة التي يتحمّلها مراجع السلفيّة العلميّة والتقليديّة تجاه الذين ذهبوا باتّجاه السلفيّة الجهاديّة المتشدّدة انطلاقاً من فهمٍ ضيّق وخاصٍّ جداً لتجربة السلف.. المسؤوليّة هنا تكمن في عدم الانتباه إلى ضرورة متابعة النماذج الفكريّة الناشئة عن كل مدرسة، أو ضرورة فتح نقاش مقاصدي موسّع ومتجدّد مع أصحاب الطروحات الجديدة التي تنسب نفسها إلى كل مدرسة، ممّا جعل كثيراً من الأفكار تخرج عن الخطوط القرآنيّة الرئيسيّة التي يقوم عليها هذا الفكر..
إنّ ظهور الأفكار والتصوّرات الغريبة هو نتيجة حتميّة للتلاقح ما بين الأفكار العامّة لكل مدرسة فكريّة مع الواقع، ولا أشكّ بأنّ مسؤوليّة التفاعل مع هذه التصوّرات ومواجهتها فكرياً تقع على عاتق النخب الفكريّة لكل مدرسة، وهو نوع من مواجهة التحديات الفكريّة المعاصرة.. ولا أشكّ أيضاً بأنّ التقصير والسلبيّة في التعاطي مع الأمر سيأتي بعواقب غير إيجابيّة، ليس أخطرها أن تُحسب التصورات الشاذّة على الأفكار الأصليّة والأصيلة لكلّ مدرسة..
كاتب سوري