أعضاء الفريق الطبي في مخيم اليرموك
أفاق المحاصرون منذ أكثر من سنتين صباح يوم الأربعاء الأول من نيسان على أصوات محاولة تنظيم داعش اقتحام مخيّم اليرموك من الجهة الجنوبية (الحجر الأسود) حيث تتمركز قوات جبهة النصرة وتنظيم داعش بعد أن بايع بعضهم البغدادي عن بعد، وظلّ التنظيم مع توأمته الفكرية جبهة النصرة، اتّخذ هذا القرار باقتحام المخيّم دون تبرير إعلاميّ معلن من التنظيم واعتقد الكثيرون أنه مشروع التوسّع ذاته، إلّا أن الأمر لم يعد كذلك وحسب بعد انتشار خبر سيطرة المعارضة السورية على معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وأصبح يتعلق بشكل مباشر بتأمين حدود مدينة دمشق من أي خطر جنوبي، وتوكل المهمة إلى داعش ليقضي على جميع أشكال الثورة في جنوب دمشق.
تحالف النصرة وداعش والنظام وتخاذل الحر
الاقتحام المفاجئ والذي تم بتسهيلات من جبهة النصرة التي أعطت راياتها لداعش ليدخل اليرموك بها كمرحلة أولى دون اشتباك مع عناصر كتيبة أكناف بيت المقدس التي لم تكن متّخذة لقرار قتال النصرة بعد، توغّلت عناصر داعش من الحجر الأسود باتجاه مستشفى فلسطين لتعلن بدء المعركة، وتبدأ دفاعات الأكناف بدورها، ليتراجع داعش مجدّدًا بعد المقاومة الشرسة التي أبداها مقاتلو الأكناف، بالتزامن مع هذا الدفاع، دخلت جبهة النصرة بقواتها إلى جانب داعش علنًا هذه المرة، لتتحول المعركة إلى حرب شوارع قويّة لم يشهد مثيلها المخيّم، ترافقت مع قصف بقذائف الهاون من قوات داعش المتمركزة في منطقة الحجر الأسود، وقذائف صاروخية من النظام السوري ليكمل المهمّة بنجاح.. خسر اليرموك يومها أحد أجمل شبّانه الإعلاميين، الشهيد جمال خليفة 23عامًا نتيجة قذيفة.
انتهى اليوم الأول دون سيطرة حقيقية لقوات داعش والنصرة باستثناء بعض المحاور الجنوبية كمنطقة العروبة وجامع فلسطين الذي أصبح منطقة كر وفر، إلا أن الأمر الذي شغل الجميع وقتها هو هذا التحالف اليساري العلماني الإسلامي المتطرّف ضد مخيّم اليرموك، اليوم الثاني كان أكثر ضراوة خاصّة وأن جبهة النصرة قد أخذت تطمينات حقيقيّة من حركة أحرار الشام التي نأت بنفسها عما يجري كما أصدر جيش الإسلام في المنطقة الجنوبية بيانًا بأنه لا يريد قتالها وقد طلب منها أن تقف على الحياد في قتاله القادم مع داعش، القتال الذي ظل لفظيًا وعلى مواقع التواصل ولم يتحوّل إلى حقيقة ليأخذ بعدها داعش والنصرة الضوء الأخضر في التقدّم.
استمرّ اللغط حول المساندة التي أرسلتها قوات المعارضة السورية في أنها أرسلت أم لا، وطال الأمر بين نفي وتأكيد، وزادت الشائعات تعقيد المسألة، الأمر الذي حسم أخيرًا في أن مجموعات من جيش الإسلام وأبابيل حوران وشام الرسول حاولت الدخول إلى المخيم إلا أن لواء المعزّ (التابع للمعارضة المسلحة أيضًا) منعهم، فحاولوا ثانية إلا أنهم لم يستطيعوا، فاشتبكوا مع قوات النصرة خارج المخيّم وظلّوا خارجه إلى الساعة، في هذا الوقت أعلنت كتائب الأكناف عن استشهاد ثلاثة من عناصرها وقتل أكثر من 10 عناصر من داعش، بينما اعتقل داعش أكثر من خمسين شابًا من المخيّم وذبح الكثير منهم، وتوغّل حتى سيطر على الكثير من المواقع في المخيم مع تراجع لكتائب الأكناف في اليوم الثالث إلى شارع لوبية وقتالهم على تلك الجبهة ضد الجميع، داعش والنصرة من جهة والنظام والقيادة العامة لتحرير فلسطين الذين حاولوا اقتحام المخيّم من شارع فلسطين من جهة أخرى، هذا كله ضمن حصار يستمر منذ عامين على التوالي وانقطاع تام للماء والكهرباء عن المخيّم، وسط مناشدات لفتح طريق آمن لخروج الأهالي والجرحى إلى خارج المخيّم!
كم كنت وحدك .. يا ابن أمي
ليست جديدة على المخيّمات الفلسطينية هذه التحالفات، والحصار كذلك، ما جرى في مخيّم جنين في الانتفاضة الثانية كان شبيهًا بما يجري في اليرموك اليوم، الفرق وحيد.. العدوّ واحد!
حينها اقتحمت الدبابات الإسرائيلية مخيّم جنين ودار قتال عنيف بين المسلحين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي وفي أول يوم تم إعطاب 3 دبّابات، وانسحب الجيش الإسرائيلي من المخيّم بعدها، ثم عاد بعد 48 ساعة وحاصر المخيّم وقصفه، وفخّخ الفلسطينيون مداخل المخيّم بالعبوات الناسفة فأعطبوا عددا من الدبابات أيضًا، وصمد المخيم على هذه الحال 15 يومًا، كان الفلسطينيون وقتها 200 مسلحًا ببنادق كلاشينكوف، أما الإسرائيليون فكانوا 5000 جندي وأكثر من 400 دبابة و125 جرّافة و50 طائرة مقاتلة.
اللافت في الأمر، أن داعش في مخيّم اليرموك اعتلى المآذن وطالب الأكناف والأهالي المدافعين عن المخيّم تسليم أنفسهم والاستسلام، والنظام السوري يقصفهم ويشتبك معهم، حتى أنهم حوصروا في اليوم الثالث في شارع لوبية في حدود 500 متر بين الطرفين، ومع ذلك رفضوا الاستسلام ومازالوا في قتال وكرّ وفر، وقالوا على لسان أبو همام أحد قيادييهم إنهم لن يستسلموا وسيحرّرون المخيم من داعش والنصرة.
في جنين، حاصر الجيش الإسرائيلي آخر المقاومين في منطقة صغيرة أيضًا، ثم ضيّق الخناق حتى حاصرهم في ملجأ تحت الأرض، وكذلك رفضوا الاستسلام، فدفنهم أحياء تحت الأرض!
مواطنون من الدرجة الثانية
مخيّم اليرموك أو عاصمة الشتات كما يسمّيه الفلسطينيّون، كان حاضرًا في كل المناسبات الفلسطينية والعربية، لم يغب عن مظاهرة أو حركة أو ذكرى، كان دائمًا يعجّ بالغضب، حشودٌ تغلق الشارع الرئيسي بطول أكثر من 2 كم من الجسر إلى مقبرة الشهداء الجديدة، اليرموكيّون أيضًا سمّوا حاراتهم بأسماء مدن فلسطين وقراها، تدخل اليرموك من حارة الفدائيين، وتقطع إلى عكّا ويافا وحيفا، إلى لوبية وصفد والجاعونة والقسطل والجرمق، ثم القدس ويازور والكرمل وترشيحا وعسقلان ومجد الكروم.. الخ، لم تغب فلسطين عنهم يومًا واحدًا إلا أنهم لم ولن ينسوا أن أكثرية فلسطينيي فلسطين خذلوهم، وتعاملوا مع قضيتهم على أنها قضية خاطئة، وكل ما يجري هو ضد قضية فلسطين، بل إن فيهم من غضب لأن ما يجري في سوريا سرق الأضواء عن قضية فلسطين في نشرات الأخبار، هؤلاء مواطنون من الدرجة الثانية لا يرى موتهم أحد ولا يكترث لفنائهم أحد. بعد هذا الخذلان الكبير، يرفع فلسطينيو سوريا إشارة استفهام بحجم انتمائهم لفلسطينيتهم.. يقولون فيها: لماذا؟
يضاف إلى مصيبة اليرموك أيضًا، ما فعله جيران اليرموك بأهل اليرموك، في العام 2012 وقبل أن يحاصر النظام السوري المخيّم وقبل ضربة طيران الميغ، كانت المناطق المحيطة باليرموك مناطق مشتعلة، وكان اليرموك آمنًا نسبيًّا، فاستقبل اليرموك أبناءه السوريين وفتح لهم بيوته ومساجده ومدارسه، ورغم محاولات النظام السوري الكثيرة لجرّ المخيم إلى صراع فلسطيني-سوري إلا أن أبناء اليرموك أعلنوا أنهم جزء لا يتجزأ من الخارطة الديموغرافية والسياسية والاقتصادية السورية، إلا أنهم خُذلوا أيضًا بعد حصار النظام لهم، ومقتل أكثر من 172 شهيدًا منهم جوعًا نتيجة الحصار والتجويع الممنهج، خُذلوا من تجار جنوب دمشق، الذين ساهموا في حصارهم أيضًا ورفعوا أسعار المواد إلى أضعاف مضاعفة، وتحوّلوا إلى تجّار حرب بكل أسف.
كذلك الحال فيما يتعلّق بالمعارضة المسلّحة التي خذلت اليرموك في حربه اليوم مع داعش والنصرة والنظام والقيادة العامّة، خذلته ولا شيء يبرّر لها ذلك إلا المصلحة والتحالفات السياسية وقرار المموّل، ولا يمكن القبول ببعض الكلام الذي يحاول التنصّل بحجة العجز وعدم القدرة وقوة النصرة! وكأن جبهة النصرة جيش أسطوري لا يقاوم!
المعارضة السورية لم يُسمع لها صوت في هذا الشأن، باستثناء المفكر السوري (العلماني) د. برهان غليون الذي قال إن كلمة أبو محمد الجولاني –أمير جبهة النصرة- الأخيرة بخصوص إدلب مهمّة وإيجابية ويمكن البناء عليها.
هكذا يترك اليرموك ليواجه مصيره، إما أن يحقق معجزة فلسطينية كما قال درويش.. توحّدنا، أو أن يختفي من هذه الخارطة ويبقى في ذكريات من خرجوا منه أحياء!
خيّا .. الشعار الوطني لليرموك
في هذه اللحظات العصيبة في التاريخ المفصلي لوجود مخيم اليرموك، يظهر أحد وجوه اليرموك الأبرز عبد الله الخطيب، الصامد في اليرموك والذي رغم كل شيء يصرّ على نشر الأمل والتفاؤل في نفوس البعيدين عن اليرموك، عبد الله الذي حطّم داعش مقرّه الإعلامي واستولى عليه، ينشر على صفحته على فيسبوك: “بيتي صار جزء من أرض الخلافة وأنا صرت من الرعايا أنا وتختي وبنطلوني الأزرق” و “أنشر خيّا أنشر” هكذا يقشّر الموت بالابتسامة ويصدّر للناس ضحكات المخيّم وكلماته الخاصة، أخباره وأسراره، ساهم في نشر مصطلح (خيّا) الخاص باليرموكيين وفلسطينيي الشمال إلى العالم.. هذا الشاب ابن 26 ربيعًا درس علم الاجتماع بجامعة دمشق، لم تكتب كتب التاريخ عنه بعد، لكنها ستفعل.. هذا عبد الله المخيّم.. عبد الله خيّا.. الذي يمكن أن يختم كل الكلام .. ويطمئننا أن المخيّم فكرة .. لا تموت!.
شاعر وكاتب صحافي من سوريا – فلسطين.
رئيس تحرير صحيفة “أبواب” ومحرر القسم الثقافي سابقاً في مجلة “طلعنا عالحرية”. صدر له في الشعر “سيرًا على الأحلام” 2014 عن دار الأيام – الأردن، وله كتابان قيد الطبع في الشعر “لم ينتبه أحد لموتك” و”لابس تياب السفر” في الشعر المحكي. يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية والألمانية. ترجمت نصوصه وقصائده إلى لغات عديدة كالإنكليزية والألمانية والبوسنية. يعيش في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بعد استضافته من قبل مؤسسة الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ إبداعي للكتابة.
