قد يكون استنتاج القادم ليس من وظيفة المثقف، فهو ليس بصارة المستقبل ولا علام الغيوب، خصوصاً في واقع لا تحصى معطياته ولا يحاط تأثيرها. لكن حين يكون كل شيء يحيط به ويتفاعل معه يضغط باتجاه أن يحاول تقديم كلام منمق عن معبر للخلاص من الجحيم الذي يعيشه ومجتمعه، وتكون كل تفاصيل حياته بين قذائف وصواريخ وحصار وجوعى ومصابين وذوي شهداء ومفقودين، هل يستطيع منع نفسه من التفكير في: وماذا سيحدث؟ وما سبيل الخلاص؟
ذات مرة سألني أحد كبار السن “متى سيفتح معبر البضائع بيننا وبين النظام؟”، مع بدء ندرة عدة مواد أساسية في السوق. أجبته بلا مبالاة: “لن يفتح”. بعد حوالي أسبوعين رأيته جالساً مع جماعة يبدو أحدهم متفائلا عن جهود لفتح معبر البضائع. لكن الشيخ نظر إلي وقال واجما: “يبدو أنه لن يفتح كما قلت”.
شعرت بأن كلامي الذي نسيته كان ذا وقع سيئٍ عليه وظلّ متذكراً له، وشعرت أني لست سوى غراب شؤم. لمَ علينا أن لا نضيع جهوداً في تنميق تقديرات متفائلة من أجل دمٍ هو دمنا؟ قد يكون الممكن منها مؤثراً وضاغطاً باتجاهه، إن سعينا لانتشاره. وليس علينا بأية حال أن نكون غرباناً.
في غوطة دمشق الشرقية يبدأ شتاء حصار جديد. تشاركها فيه عديد من المناطق الثائرة ضد بشار الأسد وعصابته. وبعد أن وصلت حال سكان الغوطة الشرقية في الشتاء الماضي إلى حدوث وفيات من الجوع، أعادت عصابة الأسد فتح معبر البضائع في الصيف بأسعار مضاعفة عن دمشق، جارة الغوطة. ورغم انخفاض سعرها عن الشتاء قال أحدهم: “لما كان كيلو السكر بـ 3000 ليرة اشتريناه. هلأ صار بـ 300 وما في 300!”
ومع بدء شتاء حصار جديد، لا يبدو أن هناك أي جهود تبذل من داخل الغوطة ولا من خارجها لإنهاء الحصار، ولا حتى لتخفيف وطأته. سكان الغوطة تم استنزاف قواهم وجهودهم لفك الحصار، وكل القادرين خارج الغوطة على إنهائه لم يفعلوا شيئاً. أسعار الأغذية الأساسية تتسارع بشكل يفوق الشتاء الماضي، بما ينذر بوفيات جوعٍ هذا الشتاء أكثر من سابقه، إذا أضفنا استنفاد معظم الناس لمخزوناتهم المادية، واقتصار محاصيل الشتاء على السبانخ والفجل والقرنبيط والسلق والخبيزة وارتفاع أسعارها!، مع عدم إمكانية توفير زراعات في بيوت بلاستيكية بسبب تكاليفها الباهظة.
هل عدنا لنكون غربان شؤم؟ قد لا يكون بالإمكان لذكر ما نعيشه إلا أن يوحي بالتشاؤم وتوقع والأسوأ. لكن سكان الغوطة الشرقية الذي يشاركون سكان مناطق أخرى الحصار والثورة على الأسد وعصابته، لا يبدو أنهم سيركنون إلى التردي المتزايد في معيشتهم، بل يبدؤون حياتهم كل يوم بأمل جديد يمكن لهم أن يوجدوه من لا شيء، كما أوجدوا ثورتهم.
من درعا، مواليد 1986. طبيب أسنان وكاتب وناشط مدني يعيش في الغوطة الشرقية