مجلة طلعنا عالحرية

تركيا في أدوارها السورية / ماجد كيالي

2322402014924254

كنا طوال العقود الأربعة الماضية إزاء ثلاث دول فاعلة في الشرق الأوسط، هي إسرائيل وإيران وتركيا، فأصبحنا إزاء دولتين، إذ باتت إسرائيل خارج هذه المعادلة؛ لا سيما بعد انسحابها من لبنان (2000). لكن هذا الاستنتاج ينطوي على ملاحظتين، او توضيحين، أولاهما، أن هذه الفاعلية ظلت تشتغل، وإلى حد كبير، تحت سقف السياسة الأميركية، او بمقدار انسحاب الولايات المتحدة من هذه القضية أو تلك. وثانيهما، أن إسرائيل هي على رأس قائمة الرابحين من التجاذبات الإيرانية والتركية (والخليجية والمصرية) في هذه المنطقة.

على أية حال فما يهمنا هنا هو الحديث عن تركيا التي باتت في ظل رجب طيب اردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، من أهم الدول المؤثرة في مسار الثورة السورية، بإعلانها مساندتها لها من الأيام الأولى، وباحتضانها قوى المعارضة، وباستقبالها مئات ألوف اللاجئين السوريين.

معلوم ان الدور التركي تعاظم بشكل كبير، مع تحول الثورة إلى العمل المسلح، وتزايد اعتمادها على الدعم الخارجي، ولاسيما مع تزايد دور الفاعلين الدوليين والإقليميين في تقرير مصير سوريا، كتحصيل حاصل للفراغ الحاصل، إن بسبب تفكك الدولة، وواقع فقدان النظام للسيطرة، او بسبب عدم قدرة الثورة على تشكيل البديل السياسي، الذي يعزز مكانتها في مجتمعها وفي الإطارين الدولي والعربي.

ومع أن تركيا تبوأت هذه المكانة، طوال أربعة أعوام تقريبا، إلا أن حدود تدخلها في الثورة السورية ظل محكوما بسقف دولي وإقليمي معين، وظل مقيدا بشروط محددة، بالقياس للتدخل غير المحدود لإيران لصالح النظام. ولعل هذا يفسر التصريحات التركية هذه الأيام، المتبرمة من التردد الأمريكي، والمطالبة من القوى الدولية والإقليمية حسم امرها إزاء تغيير الواقع في سوريا، واسقاط النظام، وعدم اقتصار الحملة الدولية على مجرد مواجهة “داعش”، وبأسلوب الاستهداف المحدود وغير المضمون من الجو.

ومع كل الملاحظات على الدور التركي، الذي اسهم في الحض على التسريع في وتيرة الثورة السورية، وتشجيع التحول نحو الثورة المسلحة، من دون توفير المؤهلات والامكانيات لذلك، وتشكيل الجماعات العسكرية ذات التوجه الإسلامي والطائفي، إلا أن هذه الدور ظل محكوما بمحاذير وتخوفات وقيودات معينة يمكن اجمالها بالآتي:

1) طبيعة النظام الديمقراطي، وحساسية حزب العدالة والتنمية من أي ردة فعل من المعارضة التركية، إزاء أي خطوة قد يأخذها في ما يتعلق بالوضع السوري. ومعلوم أن هذه المعارضة تتحفز لأي خطوة غير محسوبة للحزب الحاكم كي تقوم بالانقضاض عليه، واسقاطه عن سدة السلطة. والمشكلة ان الموزاييك المؤلف للمجتمع التركي تبدو مؤهلة لذلك، فثمة “العلويون”، الذين يتعاطفون مع نظام الأسد، وثمة الكرد، الذين لديهم حساباتهم الخاصة في هذا الأمر، كما ثمة القوى اليمينية القومية، والمعادية للتيار الإسلامي.

2) الكلفة العالية لأي تدخل تركي في الشأن السوري (والعراقي)، مع وجود حدود واسعة جدا مع العراق وسوريا، ما سيحملها عبئا أمنيا، وماليا، واقتصاديا، كبيرا، لذا يحرص اردوغان، والطبقة الحاكمة، على ان تكون أي خطوة قد تقدم عليها تركيا، مدعومة أيضا عسكريا وسياسيا وماليا من الدول المعنية، الدولية والإقليمية.

3) تأخذ تركيا في حسبانها، في أي خطوة في المجال السوري، الوضع الحساس الذي ستكون فيه إزاء كل من روسيا وايران، اللتان تناصرا النظام السوري، لذا فإذا كان ثمة أي حركة عسكرية إزاء الوضع في سوريا، فإن قادة تركيا يبدون حرصاً عاليا بأن تكون منسقة مع حلف الناتو، ومع الولايات المتحدة الامريكية، وهو ما يفسر التلكؤ التركي في التحرك لنجدة الكرد في كوباني/عين عرب، الذين يستبسلون في الدفاع عن مدينتهم.

4) ثمة مشكلة لتركيا أيضا مع بعض الدول العربية، المناصرة للثورة السورية، وضمنها السعودية والإمارات، كما ثمة مشكلة كبيرة لها مع النظام المصري، وهو اختلاف ينعكس سلبا على السوريين وعلى الثورة السورية، بسبب تضارب الاجندة بين هذه الأطراف الفاعلة في الشأن السوري.

5) مع كل هذه الأوضاع تبدو تركيا متوجسة من أن أي تدخل من قبلها في الشأن السوري قد يفيد النظام، وقد يفيد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (زعيمه صالح مسلم) وهو فرع حزب العمال التركي الذي يتزعمه عبد الله اوجلان خصم تركيا اللدود، ما يفسر جملة الشروط التي وضعتها، وضمنها ان أي عمل عسكري في سوريا، ينبغي ان يشمل العمل العسكري في البر، وانه ينبغي ان يستهدف اسقاط نظام الأسد، لأنه المسؤول عن كل ما يجري في هذا  البلد.

في مقارنة بين مكانتها قبل “الربيع العربي” وبعده يمكن ملاحظة أن تركيا خسرت من استثمارها السياسي لدى الحكومات والمجتمعات في العالم العربي، بل ان ذلك أثّر سلباً على وضعها الداخلي.

وكانت تركيا بدت، طوال العقد الماضي، بمثابة نموذج ملهم للمجتمعات العربية، بصعودها السياسي والاقتصادي وبقوّتها الناعمة، فهي دولة ديموقراطية، وتتمتع باقتصاد قوي (دخل الفرد 13 ألف دولار سنويا)، مع قدرة تصديرية عالية (114 مليار دولار 78 في المئة منها سلع مصنعة). وهذه الدولة، ومنذ صعود حزب “العدالة والتنمية” الى الحكم (2002)، كحزب اسلامي في نظام حكم علماني، انتهجت سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها.

والواقع فإن المكانة التي حازت عليها تركيا لم تكن في مصلحة الدولة الإقليمية الأخرى، أي إيران، التي عرفت بانتهاج سياسة “تصدير الثورة”، وتحريض المجتمعات على الحكومات، والتي عملت على خلق مناطق نفوذ لها في بعض البلدان العربية، وضمن ذلك إقامة جماعات طائفية مسلحة موالية لها، وتعمل في خدمة توسيع نفوذها الإقليمي.

طبعاً لا علاقة مباشرة للطابع المذهبي في الانحياز للنموذج التركي، لأن المجتمعات العربية كانت تحمّست للثورة الإيرانية، وناصرت “حزب الله” كحزب مقاومة، منذ عقود. ويمكن تفسير هذا الانحياز بتغيّر السياسة التركية لمصلحة العرب، وبنجاح نموذج حزب “العدالة والتنمية” في الحكم، وبالشبهات التي تحوم حول دور إيران في الغزو الاميركي للعراق (2003)، ناهيك عن هيمنتها عليه، وإثارتها النزعة المذهبية فيه، وفي العالم العربي، وصولاً إلى دعمها المحموم لنظام الأسد.

الآن، تقف تركيا إزاء عديد من القضايا، أولها، يتعلق بكيفية معالجة الملف الكردي. وثانيها، يتعلق بتوضيح موقفها من الجماعات الإسلامية المتطرفة والمسلحة، التي سبق ان سهّلت لها، او غضت الطرف عن نشاطاتها. وثالثها، بشأن الموقف من الخطوة المقبلة في سوريا. كل المؤشرات تفيد بأن تركيا باتت في مواجهة استحقاقات سياسية استراتيجية على غاية الأهمية لها وللمنطقة، بيد أنه من الصعب التكهن بكيفية تعاملها مع هذه الاستحقاقات، او التداعيات الناشئة عنها، لكن ما يمكن قوله ان مصير السياسة التركية، في ظل اردوغان، بات مرتبطا بمألات الوضع في سوريا، ان سلبا او إيجابا.

Exit mobile version