كمُصابٍ بفقدان ذاكرةٍ ارتكاسيّ “ماورائيّ”.. أفَقْتُ منَ العدمِ جالسا إلى طاولةٍ من الخشب الخام في أحدِ المقاهي ذوي الطّابع الّذي لطالما كان مُحبّبًا إليّ، تحت نعمةِ موسيقى الجاز الخفيفة، بمقابلِ شخصٍ غارقٍ في مُكالمةٍ هاتفيّة..
قطّبتُ للوهلةِ الأولى، لا أذكرُ من هو.. لكنّ ملامحه الطيّبة ليست بغريبة بالتأكيد، بل مألوفة أشدّ الألفة.
فنجانُ القهوة إزاءه شارف على أن يفرغ، و كأس الشّاي أمامي كان قد تبقّى منه ما يعادلُ الرّشفتين، لكنّ قعره كان خاليا من أي أثرٍ للأوراقِ السّوداء ضمن هذا اللّون الذّهبيّ الدّاكن الودود، عادةً، أفضّل الشّاي “الخمير” في حال التوفّر.. ثمّ نظرتُ إلى المنفضة: عددٌ من أعقاب سجائر اللّف العربيّة، و ظرفُ شايٍ معصور..
نظرتُ مجدّدًا إلى الصّديق المجهول المقرّب، الّذي كان لا يزال يخوض مكالمته الهاتفية، و يُطقطِقُ على خشب الطّاولة بمبسم السّجائر الخشبيّ الفارغ..
لوهلة حدّثت نفسي: أين أنا؟؟ كيف هذا الضّياع في هذا المقهى المحبّب و صديقي الّذي لا أعرفُه، أو -بصيغةٍ أخفّ وطأة- لا أذكره..
و كمن يستعيدُ حاسّة السمع فجأة، توارد الصّوت إلى أذنيّ كالصّوت الذي نسمعه عندما نرفعُ رأسنا فوقَ سطح ماء البحر بعدَ غطسة، فهو يأتي مفاجئًا بارتفاع نبرته، غير أنّه لا يأتي من العدَم تماما، إذ إنّه يجيء واضحا بعد همهماتٍ غير مفهومة كنّا نسمعها و نحن تحت الماء..
أصغيت إلى صوت الصّديق في مكالمته، و كان يتحدّث عن الموسم، و قطاف الزّيتون أو “النّبر”، وحصاده “لقوطته”، و أجور المعصرة و ارتفاع أسعار زيت الزّيتون..
فابتسمتُ و أنا أرجع رأسي إلى الخلف بارتياح من يتمطّط بعد عملٍ شاق، و عادَ كلّ شيءٍ إلى طبيعته.. و عاد الإحساس بالألفة و الإدراك إليّ..