Site icon مجلة طلعنا عالحرية

يوميات ياسمين 9

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

سلام الغوطاني

بعد استشهاد “ماجد”، كثيرةٌ هي الروايات على لسان المُفرج عنهم تحدثت عن تغيرات طالت “أبو محيي”؛ تحوّلات هي من الندرة، أشبه بالأساطير، بدأت بعد يومٍ واحد من موت الطفل، حيث نُودي على من بقي حيّاً ل “يبصموا “على “اعترافاتهم” التي غالباَ ما تكون ملفقة، والبصمة هي سعادة بانتهاء التحقيق، وبالنتيجة جحيم التعذيب…

العائدون الى المهاجع ما كفّت عيونهم النظر للحبر الأزرق على الإبهام، اللون الذي يحمل علامات النجاة، و الولادة الثانية… دوى صوتٌ كالرعدِ ارتجاجه في جنبات السجن، كأنما نهرٌ أُريدَ له مسارٌ محدّد، لكن فاجأهم الفيضان! نعم هو فيضان “أبو محيي” عندما صرخ بهم “بدكن بصمتي يا أنذال، ما عندكن غير طريقة وحيدة، تقطعولي أصبعي…”. وكأنهم كانوا ينتظرون أي فيضان بفارغ الصبر، لم يخفوا فرحتهم بلعبة تستهويهم “كسر الارادات ” و”الصراع من أجل السيطرة “، “أبو محيي” الذي تحوّل لكتلةٍ صلبةٍ لا تلين، يسبهم ليل نهار، يواضب على شتمهم عند كل لقاء، حرصوا على تعذيبه حتى يصل للحظة السابقة للموت، هم لا يريدون موته، يدركون جيداً أن موته انتصاره، لكنهم لا يعرفون أن لحظة ما قبل الموت هي إدراك الرّوح لعبثية الحياة والانتصار الأكيد لغايتها، وأن لاشيء يخيف.

ما قبل الموت كانت “لأبومحيي” هي تكسّر أسرار الوجود وانكشاف الحقيقة، كانت لحظة صفاء عرف فيها امتزاج الخالق بالمخلوق، عرف فيها الخط الفاصل بين الوجود و العدم، ليولد الشّعر على لسانه، في الظلام وعلى حافة فقدان الوعي، كان كلاماً عذباَ غامضاَ، لكنه كالموسيقا، كالماء المنساب من بين الأنامل، همٌّ وحزنٌ قد ارتدّا. صدىً لهاماتٍ تعبرُ الآفاق هو امتزاجُ الله بدموعٍ ودمٍ يفضحُ كل هذا النفاق. “أبو محيي” الذي ينوس بين لحظات صحوٍ تتضاءل يغني فيها بحنجرةٍ مبحوحة “للقاشوش” وبين لحظات انفصال عن الواقع كانت بتزايد لا يكفّ فيها عن موسيقا الكلام الغامض، لم يقدروا على كسره.

ما حصل أنَّ صحوه انتهى، وجهه تحجّر، وعيناه تحدقتا، وعضلاته فقدت القدرة على الاستجابة، ولسانه ما توقف عن الشّعر…

لم يعد يعرف “أبو محيي” أين هو، صار الواقع غير موجود، كان يقول: “هي الحرية تحت السلاسل”. كان يصرخ كثيراً: “السيّد هو من لا يهاب الموت”.لم يقتلوه، أوقفوا حفلات التعذيب، صار بنظرهم موضوعاً للضحك والجنون…

 قيلَ عنه أنّه كان سيلاً من الحنان المتدفق للمعذبين المرميين بمهجعه، يُنظِّف جروحهم، ويغسل أجسادهم من الدماء والبراز، يُطعمهم، يسقيهم، وقيلَ أيضاً أنه يحتضنهم كي يناموا. لا أحد يعرف ما كان يهمسه في آذانهم، لكنها بالتأكيد هي جرعات من روحٍ تعانق السماء لتنقل الرسائل…

قيلَ أيضاً أن موته كان بعد نوبة هيجانٍ حادةٍ، أصابته بعد ادخال قادمين جدد للمهجع، أحد القادمين الجدد طفلٌ بعمر “ماجد”، عندما رآه “أبو محيي”، عاش صحواً صاحبه صراخاً: “لااااا معش فيي أتحمل ماجد ثاني”! هي صحوته الأخيرة التي أودت بحياته…

Exit mobile version