سلام الغوطاني
روح “فيروز” المضطربة المأسورة عند ملائكة السماء كانت تحلم بحلولٍ في أحد الأجساد الميتة تحت التعذيب والقريبة من زنزانة “ماجد”، أو حلول يكون بالأشياء؛ جدار الزنزانة أو بابها أو بنطال “ماجد”، جرابه، حذائه لا فرق!
أليس اضطراب روحها دليل على أن السماء لم تقدّم الإجابة؟ أو أن الإجابة لا تساعد على السكينة؟ أم هو قلب أمٍّ آثر الامتداد والطوفان على قدرٍ لا يقرّ به؟ هل استجابت السماء لكل هذا الهيجان بأن تكون عيناً في الجدار الصلب تراقب اعتداءات “أبو إلياس” على الجسد الورديّ؟ وأذناً على أكرة الباب الحديديّ تسمع صرخات مسكوتة لحنجرة تبكي وتبكي وتصدح ألماً وقيحاً؟ “ماما دخلك يا ماما وينك؟” هل روحكِ ستبقى مسمّرة على أبواب السجن وجدرانه رافضةً العودة، أم أنك ستحاكمين السماء؟
استشهد “ماجد”! جسده الغض لم يتحمل أكثر من سبعة أيام.. سبعة أيام هي “سِفر التكّوين” كما هي أسطورة الفناء!
في اليوم الأول: “ليكن نور”؛ خلق الله النور وفصل النور عن الظلمة.. صار النهار والليل. وفي اليوم الأول من زنازينهم: “شو اسمك ولك عرصة”؟ وبصوت عاجز هو الرماد المطفأ: “ماجد سيدي”. “أنت عنا رقم ولك طي… رقمك 345، تعا ولا.. رح أكتبو عجسمك”. أكان مشرطاً أو قطعاً من البلاستيك الحارق المذاب؟ دموع “ماجد” المرافقة لصراخه “آخ يا أمي آخ” سيولاً لذاكرة تكتب تاريخاً. في اليوم الأول ألغيت الأسماء!
في اليوم الثاني: “ليكن جلدٌ في وسط المياه”؛ ليكون فاصلاً بين مياه ومياه، ودعا الله الجلدَ سماءاً. اليوم الثاني عند “أبو إلياس”: “ليك يا منيك.. اليوم ما بدنا تقلنا شي” مشيراً الى الكرباج الذي بيده، “عزرائيل بدو يبوسك بس”، وبدأ يَجلدُ “ماجد”، هو يوم الجلْد قبل التحقيق. لم يتحمل الصغير سوى دقائق معدودة حتى أغمي عليه. جلدٌ ثمّ مياهٌ ليستفيق، ثم جلدٌ ثمّ مياهٌ.. بعدها لُفّ الجسد النازف ببطانية سوداء ليُرمى في الزنزانة!
ثالث الأيام، قال الله: “لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد و لتظهر اليابسة”، فكانت الأرض والبحر. وأمرَ الأرض: “لتنبت عشباً و بقلاً… وشجراً يعمل ثمراً، بزره فيه كجنسه”. “أبو إلياس” الذي كان يهتم بنظافة مكتبه صاح بالسجّان: “جبلي 345 يشطفلي المكتب”. دخل “ماجد” المكتب وهو يرتجف من الحمى التي ما فارقته الليل بطوله، أصابه الخوف من “أبو إلياس” الناظر للكدمات المنتشرة على جسم الصغير: “شو بك حبيبي لا تخاف نحنا هيك منستقبل ضيوفنا، يللا فرجيني شطارتك بالشطف، وإذا اشتغلت مليح مش عزرائيل يلي بدو يبوسك، يمكن أني بوسك”! أرض الغرفة امتلأت بالماء المحمول على كتف “ماجد”، اليابسة الوحيدة كانت الطاولة، والمياه التي أنعشت قدمي “أبو إلياس” الحافيتين جعلته منتشياً. أمر “ماجد” بالركوع على الطاولة بعد أن وضع عليها “رزاً وعدساً ومشمشاً”: “يللا حبيبي بس خلص هذول الك” محققاً “أبو إلياس”: “بزره فيه كجنسه”.
في اليوم الرابع: عمل الله النورين العظيمين؛ الشمس والقمر، ليفصل النور عن الظلمة، والليل عن النهار، ولتكون الأيام والسنين والفصول، و دائرة الزمان. “345 يللا بسرعة لك عرصة، مطلوب عالتحقيق”. طُمِّشت عينيه، ورُبطت يديه، ليأتيه صوت أجشّ يسمعه لأول مرة: “هنت أمجد”؟ “لا سيدي ماجد”.. “لك خرى ولا أنت 345، آبتفهم؟”، “حكيلنا يا 345 من أول ما نزلت من بطن الشر.. لهلق.. وأصحك تقلي عن شو بدك تحكي.. المهم تحكي وما توقف”. مرتجفاً وباكياً بدأ “ماجد” الحديث بما أسعفته الذاكرة عن مرحلة ما قبل المدرسة، ثم دخوله المدرسة وأسماء المعلمين والمعلمات.. قاطعته لكمة أردته أرضاً: “عبتتمسخر علينا يا عرصة، والله لخلي طي..ك متل طي.. الرقاصة.. أحكي ولا عن السلاح يلي إجا لعندكن عالضيعة”. ليفهم “ماجد” الصغير أن الزمن عندهم ليس حياته بل هو شيء آخر؛ الزمان الذي عاشه لا قيمة له في حضرتهم، زمانهم مختلف، مفارق، متعال! “احكيلي عن المظاهرات.. بدي أسماء، وكيف بلشتو تجيبو سلاح.. والعمليات الإجرامية يلي تساوت حويلة الضيعة”. متنهنهاً من البكاء “ماجد”: “والله يا سيدي بحياتي ما شفت سلاح”. “كذاب ولا.. خذو وبكرا لينولوا راسو”.
اليوم الخامس: “ولتفض المياه زحافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على جلد السماء”. مرّ الصباح كاملاً دون استدعائه. بعد وجبة الغداء، فُتح الباب الحديدي وأطلّ من ورائه “أبو إلياس” تجتاحه نوبة غضب مصطنعة، أمسك “بماجد” من شعره وجرّه على طول الممّر الممتلئ ببقع الدماء، اصطدم “ماجد” بجثة رجل ممدد ثم بجثة أخرى، هاجمته نار الخوف صقيعاً بارداً احتلّ كيانه.. “لك عبتخبي علينا يا كلب.. لك أبو محيي قال أنو البواريد انحطت عندكن بالمطحنة، والله لخلي السمك ياكل راسك”. وأدخل رأس الصبيّ في حوض السمك. “ماجد” الذي أيقظته كلمة المطحنة غاب بين الذكرى والاختناق. “وليطر طير فوق الأرض على جلد السماء” تحولت في أسطورة الفناء إلى: “يللا طلعولي يا عبساط الريح”، “لتخرج الأرض ذوات أنفس حية” فكانت البهائم والوحوش والدواب، “وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” وكان الإنسان على صورته، ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا.. وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً.. وكل شجر فيه ثمر.. لكم يكون طعاماً.. وكل حيوان.. وكل طير.. وكل دابّة على الأرض فيها نفس حيّة.. ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً سادساً”.
فتحت أبواب الجحيم منذ الصباح الباكر. أمرَ كل المساجين بالخروج دفعة واحدة إلى ساحة يحيطها سور ذو علو شاهق، وعدد السجانين كان بتزايد، وكأن آلة ما خلف السور تقوم بتصنيعهم، أو أن خروجهم كان من باطن جهنميّ للأرض، عراة الصدر. العضلات الكبيرة المفتولة تخفي الوجوه الوحشية عن عيون السجناء الذين افترشوا أرض الساحة، يحملون العصي والسياط وقضباناً ثخينة من الحديد، يحملون صراخهم الملوّن بكل أشواق القتل والتعذيب، رغبة الإبادة لكل ما هو حي تحرك أجسادهم. بعد أول جلسة من الضرب بالعصي والحديد، بالأيدي والأرجل، صرخوا بالمساجين بأن يتجردوا من كل ملابسهم، بما فيها القطع التي عبرت عن بدايات وعي البشر لنفسهم. المنظر المهيب لمئات الأجساد المتلاصقة الممددة، رائحة خوفهم حركت بالسجانين غريزة الذئب بالذبح الجماعي. آلة التصنيع لم تتوقف عن إنتاج الذئاب والوحوش لتغذي جهنم المفتوحة. الصراخ والعويل والبكاء، برك الدم، صوت العظام المتكسرة، العيون الشاخصة لأبعد نقطة من الكون، العيون المعاتبة للمباركة الإلهيّة، معاتبة بأن كيف تركت ابنك وحيداً؟!
الكثير من المسنين فارقوا الحياة بالنصف ساعة الأولى، كانوا أكثر حظاً من غيرهم. رائحة الموت المنتشرة بالمكان أملّت الكثيرين بقرب الخلاص، وخففت عذاباتهم. “ماجد” الباكي دائماً وأبداً، الباكي وابتسامته الصينية لم تغادر وجهه، لم يعد يقوى على النهوض؛ خدر برجليه، الكتف المخلوع، أضلاعه التي سمع صوت تكسّرها، غيابه المتكرِّر عن الوعي، وصولاً الى الهذيان المُنجِد.. والانفصال عن كل هذا الألم.
“فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدّسه لأنه فيه استراح.. هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت..”
وكان استرجاع روح “ماجد”.. لكن الى حين..
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج