سلام الغوطاني
كليلٍ تزدادُ ظلمته, ويتسع صمته, باحثاً عن صوتٍ يبدِّد وحشته, جلس “ماجد” ملتصقاً بزوج خالته. ما فتئت عيناه تبحث عن روح والدته “فيروز” متذكراً كلماتها قبل الوفاة: “حبيبي مجّود رح ظل معك ما تخاف”. ومودِّعاً جسدها كعصفورٍ جفلٍ أضحى عاجزاً عن الطيران.
“عمتبكي يا عرصة عالشر…”؟! مخاطباً “ماجد”، وأشار لزميله ذو الأذن المقصوصة “كيِّسها و زتها بالقبو لهالقحبة”. ناظراً “ماجد” للباب، وما كفَّت أذناه تتوهَّمان سماع صوتَ والده الطحَّان المعتقل أو المكيَّس أيضاً في قبو مدرسة السواقة, فـ”فيروز” قد قالت له: “شد حالك ماما, خليك بطل و قوي, بيَّك ما بيتأخر ليطلع”.
بعد عناء خمس سنوات من المتابعة الطبيّة لعقمِ الطحَّان, والمشافي والمخابر و الأدوية و التحاليل, أتى “ماجد”, حلمُ والديه, نفخةُ الروحِ الالهيةِ داخل أحشاء “بصَّارة الفرح”, صانعُ بسمتها بنهاية حسرتها.
شروقُ الشّمسِ و غروبها ارتبطا لدى “فيروز” باستيقاظه الباكر و نومه المتأخر, كتلة النشاط الطريّةُ الغضة تلك سحرت هواها و حوَّلته لحبٍّ جارفٍ طال الجميع ممّن عرفها, و الطحّان المفتون بلقبه الجديد “أبو ماجد” انتصبت قامته بمجيء الصغير, بعد أن حناها أرق الليالي من خوف وحدته بالكبر “والله يا فيروز ما عاد في خوف عكبرتنا بكرا ماجد بيصير شب وبيعبي البيت أحفاد وحفيدات”.
قبيل وفاتها بدقائق كانت يدها الحانية على وجه “ماجد” ترسم له بالذكريات قارباً يطفوان به في زمن الغرق الجماعي, “بتعرف شو كانوا يقلولي قرايبنا, من كثر الأدوية يا “فيروز” اجاكن بضاعة صينية, ابنك بيشبه الصينيين بيظل متبسم, ضحاك يا مجّودة القلب, ضحاك”. قارب الذكريات سهَّل موتها وأنساها ألمها. ولعُ “ماجد” بمطحنة أبيه, يساعد الزبائن بحمل الأكياس, تعلم إصلاح الأعطال الطفيفة للآلات: “ليكو ابني والله مهندس ما بيعرف يصلحها”! ولسان حال الزبائن “الله عوضّك بعد كل هالمدة يا أبو ماجد… والله هالمطحنة ما عاد حلوة بدون ماجد , وينو اليوم غايب”؟ و يجيب الأب “عبيساعد أمو بالعزالة”.
العينان المتيَّبستان لطفلٍ لم يتجاوز الحاديةَ عشر من عمره لم تبالغا بالدلالة على قلبٍ صغيرٍ مرتجفٍ يحاول عدم التّصديق, هارباً من وحدته بحنانٍ فائضٍ لزوجِ خالته؛ فقد لازمه بالجلوس, وحين خروج “أبو محيي” للحمّام يقفُ “ماجد” منتظراً عودته بابتسامةٍ بلهاء, ومع عودة “أبو محيي” يجلس “ماجد” و الطمأنينة قد وردّت خديّه.
“يللا كلكن قوموا وضبوا غراضكن, وصفوا تحت بالباحة, معكن نص ساعة. ووراس الإمام علي يلي بيتأخر غير كيّسو وهوي عايش, وبدي ياكن صفوف منظمة مع أنو صعبة عليكن يا غنم, الزلم لحال و الشرام… مع ولادهن لحال”، صاح بنا ذو الأذن المقصوصة.
كنا بالمئات, انتظمنا وغيمة الرّعب المصاحبةِ لنا ترسم خطوط اصطفافنا, كما تريد, كأننا عجينةٌ من الدمى المهترئة يلعبون بها. الشتائم نفسها التي تعودنا عليها, و الهراوات المُدمية على رؤوس الّرجال الهاتفةِ بإجبارٍ لـ” بشار الأسد “, التحرّشُ بالنساء والتلّذذ بذلك أمام أعين أزواجهن: “قولوا وراي يا عرصات, لا اله الا بشار”! وكل تلك الطّقوس المخمورة التي تشرب من أرواحنا, وتفتك بعظامنا, وتغتال الباقي من حياتنا…
تناهى لسمعي أنَّه سيتم ترحيل كل الرجال للمعتقلات, قفز قلبي من مكانه عندما رأيت “ماجد” ممسكاً بيد “أبو محيي” واقفاً معه بصف الرجال, تجّمدت ساقاي عندما سمعت أحد عناصر الأمن يقول وهو يشير لـ”ماجد”: “ليك هالبياض شو رح ينبسط عليه أبو الياس”!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج