سلام الغوطاني
أحدق في يارا وهي نائمة، أنقل نظري إلى أصابع قدميها وأتذكر أين كنت تُقبلها. أراقب استغراقها بفرحٍ؛ هدوء عينيها الجديد تحت الأجفان، امتزاجي بها وامتزاجها بي في لحظة انتظارك. تنطق بلساني بما أعجز عن التفكير به: “بكونوا عبحمموا لبابا؟” هذا السؤال الدائم أثناء حمام يارا. “بيكونوا عبيطعموا لبابا؟” أثناء الفطور، “بيكون هلق دفيان بابا؟” قبل النوم. هي تخاريفي بليلي الطويل أنَّ ما يبقيك حياً هو أسئلة يارا.
أعرف الغمور ببحر حنوك؛ كنت أباً لي في الشهور الأولى لزواجنا، كما يارا منذ ولادتها. لم تمسني لأكثر من ثلاثة شهور بعد تلك الليلة، حميتني من جلافة وقسوة الناس المحيطين بنا.
“ياسمين رح نساوي تمثيلية، رح أقفل عليكي الباب بس روح عالشغل بحجة (ما بحب مرتي تنكشف على حدا) منشان ما يشغلوكي بالمزرعة”.
نزقي المتلاشي على ضفاف لطف روحك، وضجيجي المحاصر بهدوء عينيك، ذوباني بالتدريج داخل شجرة تنمو بسرعة، من لا مبالاة بقدومك إلى الشوق لمجيئك: “تأخرت محمد اليوم” لمحت سعادة بعينيك: “اشتقتيلي ياسمين؟”.
من عدم التحضير لشيء إلى التعب على تحضير ما تحب، من حذر ملامستك إلى الشوق للحظة مصافحتك، من ياسمين إلى شجرة وارفة هي أنا وأنت وما بيننا…
جمعتنا الصدفة وفوضى الحياة ولن يفرقنا طاغية حتى لو قتلك. بعد اعتقالك، محمد، بعدة أيام سُمح لنا بالخروج من مدرسة السواقة حيث كنا محتجزين.. أتذكر مدرسة السواقة، أتذكر… كنا نغطي جميلتنا غيداء خوفاً من أن يراها رجال الأمن.. “إذا صرلي شي ياسمين جوزيها لغيداء”. بعد أن رأينا كيف تؤخذ النساء عنوة. “ياسمين اذا أخذوك أو أخذوا غيداء رح موت أكيد”!
رجال الأمن بروائحهم الكحولية كانوا يختارون النساء، الجميلات منهن، أحياناً لليلة واحدة وأحياناً لعدة أيام. الزوج أو الأب أو الأخ المعترض كان مصيره الضرب حتى الإدماء، بالأيدي والعصي وخُمص البواريد، ثم يقومون بسحبه وجرّ أشلاء جسده نصف الميت، يختفي بعد ذلك ولا نعود نراه؛ اعتقال أو تصفية، وليس هناك خيار ثالث.
النساء العائدات من رحلة ملذات رجال الأمن وضباطه، روح متكسرة وعيون ترتجف وبكاء ليلي دائم، اتفاق ضمني كان بين الجميع بالأعين الخائفة أن لا نتحدث عما جرى هناك، اتفاق بدفن ذاكرة مدرسة السواقة وعدم نكش القبر، كنت تعرف أنني لن أسكت. “ياسمين شو بخاف من قوتك”!
فيروز، زوجة طحان البلدة، أخذوها بعد أن اعتقلوا الطحان. فيروز، ذات الصوت الأنثوي الناعم، والعينين الواسعتين، كنا نسميها “بصّارة الفرح”؛ تقرأ لنا الفنجان وتختار منه المفرح: “فنجانك أبيض.. جاييكي رزقة، بعد ساعة أو يوم أو شهر أو سنة رح تنفرج أموركن”، أعادوها بعد ستة أيام بملابس ممزقة ونزيف نسائي ومصابة بالحمى. أتعرف ما قالته قبل وفاتها “ولاد الحرام, الله يلعن أبوهن كانوا يتداوروا… أني ميتة من أول يوم”.
ماجدة الصغيرة ابنة أبو خلدون تاجر الأغنام، فاطمة جارتنا.. و و و.. ذاكرتي لن تموت، لن أدفنها.. اغتصابات بالجملة مع إجبار الرجال على الصياح: “الله سوريه بشار وبس”!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج