ثقافة

يوميات ياسمين (5)

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

سلام الغوطاني

لا أدري، هل كان يتقصّد العذوبة في صوته؟ فحديثه الذي كان شجيّاً محمّلاً بهموم الحياة, لم يلهي نظري المتنقّل بين أرجاء مسكني الجديد. كانت الرائحة المميزة لحداثة الأثاث تفوح في المكان؛ رائحة تعوّدنا ارتباطها بنشوة الفرح الطفلي بالجديد من الأشياء, هي طفولتنا المسكينة والمسكونة بالحرمان.  وقع نظري على الزخارف المعهودة بهندستها الناقصة, خطوط غير تامة، زوايا قائمة, وأخرى حادة لكنها متساوية, أضلاع متطابقة, كانت على بابيَّ الخزانة, وعلى أطراف السرير, كذلك على “الكومدينا”, والسجادة المستطيلة, على الأغطية والوسائد, والأدهى من كل ذلك أنها كانت أيضاً على أطراف ردائي: رسومات هندسيّة ذكرتني بقبب المساجد وجدران الجوامع, بأسواق دمشق القديمة, تنطق بضرورة التنظيم, وواجب الانضباط. أحسست أنها تقول: “لا يعش الإنسان إلا قدره”. هي سجن الروح في قفص جبريّة الحياة, فكرة النصيب, خطوط تهمس بهواجس عقل راسمها, إجبار خيال الناظر إتمام أنصاف أقواسها, يُكمِّل الدائرة ويرضى بالمكتوب…

“تشربي قهوة ياسمين, بدي ذوّقك قهوتي”, بجهدٍ أومأتُ له بنعم, غرفة “محمد” المشيّدة فوق السطوح كانت مجهّزة بمطبخ وحمام صغيرين داخلها, دخل “محمد” المطبخ. فتحتُ النافذة الوحيدة المغطاة بقطعة قماش, وراء النافذة قضبانٌ من حديدٍ صدأ, منعتني من استنشاق الهواء الصباحيّ, حتى تجاهلتُ صلابتها وتخيّلتُ أنني بتحديقي أستطيعُ إذابتها. هو توقُ الرّوح للامتداد وتحدّي الانقطاع والانفصال.

رأيت بلدتي, كنت كأني أراها لأول مرة, جدران بيوتها الإسمنتيّة المتشققة, غُطيّت الشقوق بمزيجٍ من الطّين والحزن وعرق ناسها المتعبين, بيوت تحيطها المزارع و”البواكي” وقنن الدواجن, بيوتٌ متناثرة, متباعدة والمساحات بينها شاسعة, وكأن، امتداد هذا الفراغ بينها، تعويضٌ واستبدال بما يضيّق على القلوب. تتخللها دروبٌ وأزقةٌ ترابيةٌ بدت كأنها تتلوّى مع حركة الصّباح البطيئة الثقيلة لأهل البلدة, ما خلا بضعةٌ من أشجارٍ تكافح لتعديل هيمنة اللون الأصفر…

قاطعتني يدُ حانيةٌ ربّتت على كتفي “تعي قعدي ياسمين”. عينايَ اللتان ملّتا البكاء, استبدلهما حزني بقلبٍ يعلو حتى لامس حنجرتي صانعاً اضطراب صوتي “الله يخليك محمد بدي كفّي تعليمي, قبال وما رح أنسالك هالمعروف”. لم أستطع إكمال التّرجّي, كرهت التوسل, فجأةً كأني تعلّمت شيئاً, قوّةٌ خفيةٌ اجتاحتني “لا لضعفي, لا لتوسلّي ورجائي”!

“بتعرف محمد متل بعضها بدك ياني اتعلم او ما أتعلم”. جلس “محمد” على السرير, وضع يده أسفل ذقنه ونظر الى الأرض: “انتي صرتي مرتي ياسمين, شغلة هالتعليم شغلة صعبة كثير, يلي عبتفكري فيه مش دارج بعيلتنا”.

وقف وبدأ بترتيب الأغطية, ثم ذهب الى المطبخ عائداً بصينية القهوة ومكنسة: “صبّي قهوة بين ما كنّس الغرفة, خلينا نقعد على نظافة”. ارتشفت القهوة وأنا أراقب نشاطه. “بتعرفي ياسمين أني على لبنان ما عاد رح روح, حابب أستقر يا الله, تعبت من الغربة والسفر, جمعت مبلغ مليح, رح أشتري تيوتا وأترزق بسوق الهال بالشام, وحياتك رح ترتاحي معي, رح نعمّر أحلى بيت, ونعيش متل ما بدنا”.

الطرق الناعم على الباب أوقفه, وبحركة فازعة رمى المكنسة من يده “مين”؟ جاء صوت عمتي “مبروك يا عرسان يللا عمنستناكن عالفطور”. كنت فعلاً جائعة, العائلة بأكملها اجتمعت حول صحون الفول والحمص والبيض واللبن والمخللات, لم تتوقف المباركات والتهاني والزغاريد من جديد منذ وطئنا, أرض الديار. كانت عمتي وزوجها وأخوة محمد الخمسة, وثلاث نساء عرفت أنهن زوجات أخوته…

مفاجأتي الجديدة التي كانت كالإعصار, عندما رفض زوج عمتي أن يبارك الطعام, احمّرت الوجوه مع صوته الغاضب “أني ما فيي سمّي على الأكل اذا في بيننا وحدي مش مغطية راسها”, تلمّست شعري بخشيةٍ وعرفتُ الحياة التي تنتظرني.

يتبع..

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top