Site icon مجلة طلعنا عالحرية

يوميات ياسمين (4)

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

سلام الغوطاني

جدارٌ من الألوان كان يفصلني عن وجهي، ويدفعني للنظر خلف المرآة كيما أراه. ما كان تبرجاً ما فعلوه، بل هو أقرب إلى إعادة رسمي كما يريدون وأظن أنهم نجحوا! لم أعد أذكر من ألبسني ثوب الزفاف، لكن ما أتذكره أنني ضحكت بطريقة غريبة لأول مرة منذ يومين، لم يكن الفستان على مقاسي فقد فُصّل للعروس السابقة التي هي أضخم مني، أخرجوني بالقوة الى بهو الصالة المكتظة بالنساء، ما رأيته كان وجوهاً متشابهةً متهامسةً، يعلوها كذلك المُبالغ فيه من الألوان، تيّقنت حينها أن هذه المبالغة هي محاولة لطمس الرمادي في حياتنا، اللون الحقيقي الذي نعيش.
نعم، الكثير من الأضواء والألوان هي تعبيرات الفرح البديل عن فرحنا المسروق من اعتقال أرواحنا، بعض همسهم كان يشي باستغراب صغر سنّي ووجهي الطفولي، وبعضه الآخر استهزاءً وسخريةً تخص جسدي الصغير الساكن داخل الفستان، ما طغى على غربتي وارتجافي من البرد مشهد استنفار النسوة لقدوم العريس، التغطية السريعة والمحمومة بالحجاب والمالطو خوفاً من اعتداء عينيه على أجسادهنّ، حركاتهن الانفعالية كانت تفضح اتحاد رغبة التغطية برغبة التعرّي وأنهما من نفس النبع، النبع الملوّث بظلمة وحوش الرغبات وتحوّلاتها الوقورة.
دخل العريس الذي هو عريسي بهو الصالة، كنت أول مرة أراه منذ الطفولة، ملامحه ذاتها مع زيادة لابأس بها بالحجم، لوهلةٍ أحسست أنه مثلي مجبراً، على وقع الطبول والأهازيج زفوني إلى منزل والد العريس كأنني أشاهد فيلماً عن أسرى الحرب، وصعدوا بي إلى غرفةٍ تسمّرت قدماي على بابها رافضةً الدخول، سمعت ترغيباً وتهنئةً وتوبيخاً، أمسك محمد بيدي وحاول إدخالي، لكني لم أتزحزح من مكاني، جاء عمّي الأكبر سنّاً “أبو عمر” وبلهجةٍ حازمة قال لي: “يلّا يا بنت لا تفضحينا، عيب يلا دخلي مع زوجك” وجرّني إلى الداخل.
على صوت الأغاني أغلق محمد الباب، كنت أرتجف كدجاجةٍ مذبوحةٍ، أحسست أن قدماي لا تحملاني، تعثّرتُ ووقعتُ على الأرض، ساعدني محمد على النهوض وأجلسني بجانبه على السرير، و صار ينظرُ إليّ، وينتظر، وأنا لاأدري ماذا ينتظر، زمن انتظاره أنهاهُ صوته المفاجئ لي: “يلا بدلي ملابسك ياسمين”. الاستغراب والخوف تناوباني و أنا أحدّقُ في عينيه، وسؤالٌ يخترق رأسي العاجز عن التفكير، فكرة الزواج بكاملها لم تخطر لي يوماً، والآن كيف أصبحت زوجة؟!
“يلا ياسمين شو بكي، بدلي أواعيكي، الناس عبتستنانا برا، ما بنا نتأخر عليهن”، بنـزقٍ جارف بدأت بنـزع الدبابيس عن شعري ورميها على الأرض، صامتةً و محدِّثةً محمد بعيني “ليش الناس عبتستنا، شو بدهن مني بعد”؟! بعد أن نكشت شعري، رمقني محمد بنظرةٍ تائهة و خرج من الغرفة، عندها لاحت لنفسي الصغيرة بسمةٌ بريئة بأن كلّ هذا سينتهي.
دقائقُ معدودة وفُتح الباب بعنفٍ يتقصّدُ إرهابي، كانتا أمّي و عمتي، مَعَ صوتهما العالي أدركتُ أنّي لا أعني لهما شيئاً، صراخ أمّي لن أنساه ما حييت: “أنتي يا بنت بدك توطي راسنا و راس أبوكي”! وانهالت عليّ بالضرب، لولا أن عمتي حالت بيننا واستطاعت تخليصي وهمست بصوتٍ خافت: “يلا حبيبتي لا تكوني غبية، ساوي شو بقلك محمد وكوني طيبة ومطيعة معو، يلا ياسمين خلي هاليوم يمر على خير”.
استجابةً لإيمائي اليائس لهما بالموافقة، غادرتاني، حملٌ ثقيلٌ أرهقني رافقهما، شعرت أنني بدأتُ أفقد وعيي وأمسكني عن ذلك إدراكي بأن ما يحدث ليس حلماً بل واقعي أنا، لم أفقه شيئاً مما قالتاه “وطي راس أبي”، “وما كون غبية”، يومها لم أكن أعرف أن صك براءتي و انتصار محمد برجولته تجمعهما “خرقة” قماش عليها بقعة دماء مني، وأن الاحتفالات تبدأ بعد خروج محمد حاملاً علم رجولته وعفتي.
عاد محمد مبتسماً، وبحنانٍ غلّفَ صوته: “كثير عادي تكوني هيك، بدي تثقي فيَّ، هالشغلة ما رح تكون صعبة”، اقترب مني وجلس بجانبي ممسكاً بيدي: “إهدي، إهدي ، ليش عبترجفي، لا تخافي، استرخي، خوفك وتوترك بصعب شغلتنا عليي وعليكي”.
تلّمس شعري وضمّني إليه، رويداً رويداً تسرّب الهدوء إلى كياني و شعرت بالدفء: “لا تخافي، إهدي”. وانتهى الأمرُ بسماعي صوت إطلاق النار احتفالاً بدمائي على “الخرقة “ القماشية، وعلت زغاريد النساء وأنا مستلقيةٌ أبحث عن نومي. خطٌ واهٍ بين جفني أظهرَ وجهُ أمي الذي تغيّر “مبروك بنتي حبيبة قلبي”، عجزت عن الرد، أغمضت عيني وكأنني لم أنم منذ ألف عام، استسلمتُ و أسلمتُ جسدي و روحي لراحةٍ غمرتني حتى الصباح حين استيقظت على صوت محمد المستلقي بجانبي: “صباح الخير يا عروس”.

Exit mobile version