Site icon مجلة طلعنا عالحرية

يوميات ياسمين (11)

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

لوحة للفنان ديلاور عمر بعنوان “قصة لاجئة”

سلام الغوطاني

تلقتْ خبراً عن ابنها: “قُتل تحت التعذيب”! فانجلطت وشُلّت نصفياً. خبرٌ أليمٌ وصادمٌ للجميع! كيف؟ متى؟ أين؟ لماذا؟.. تحضرُ جميع أدوات الاستفهام والاستغراب دفعةً واحدةً ولا مجيب عن اللامعقول إلا التأقلم معه. فكرت الأم بمعقوليّة لبرهةٍ: “لـم يكن فيه علّة لما اعتقلوه! فكيف يموت؟” ولكن دماغها لم يستوعب هول الخبر.

كان الخبرُ جللٌ، ووقعه عليكِ أجلُّ وأعظمُ. خبرٌ أو إشاعةُ لا فرق؛ ففي سوريّة، لا تمييز بينهما، إلا بعد فوات الأوان، في هذا الليل الطويل الطويل والذي تبدو فيه “كلّ البقرات سوداوات”! آه يا أمي آه..

تدور في ذاكرتي أطلالُ الأحداث والأماكن فتحن فضلات روحي المهشّمة وتذريها للجحيم.. هل للروح فضلات كما للجسم؟ وهل علينا الانتهاء من إعادة تدويرها كما نفعل مع فضلاتنا؟ ربما. ولكن ما السبيل لدفن ذاكرتنا مرة وإلى الأبد؟ يا لهول الذاكرة، ذاكرتنا!

تضغط عليّ حالة شللك النصفيّ يا أمي، والمسؤوليات الملقاة على عاتقي لغياب الرِجال وحضور الشياطين. وتضيق علينا غرفتنا التي ربما لقبور المسؤولين ببلدنا ما هو أوسع منها! لماذا أعتني بكِ برضى؟ وأنتِ التي طردتني وأولادي بالإضافة لأختي وأولادها عندما لجأنا إليكِ! وتركتينا في حال سبيلنا نتدبر أمرنا متوحدين. ثم لجأتِ إلينا بعد شللك النصفيّ لنعتني بكِ. لماذا؟ هل كنا حقاً ببيوتنا يوماً وطُرِدنا منها؟! لا أدري..

وبالرغم من معرفتنا اللاحقة أنَّ الخبرَ كاذبٌ، وأخي ما زال حياً في أقبية الأمن، إلا أنَّ حالتكِ لم تتحسن، وكأنك تعاقبين نفسك وتعاقبينا بشعوركِ بالذنب. لدرجة أنكِ غير قادرة على فعل شيء إلا الظهور مظهر الطفلة العاجزة. فمن باب تحصيل الحاصل عندكِ أنْ تقوم ابنتك “ياسمين” بِهَمّكِ!

آه يا أمي لو تعرفين مدى استجدائي ومعاناتي والابتزاز الذي تعرضت له؛ لكي أحصل لكِ على كرسي نقال يساعدك على الحركة بدوني، ولكنه لم يعجبكِ لأنه يعمل بلا “ياسمين”. فالمعنيون بالمساعدات الإنسانيّة والطبيّة يحتاجون لجهودٍ كبيرةٍ لإقناعهم؛ فالحالات كثيرة وهم يسترزقون. فمن جهةٍ إلى أخرى، ومن تقريرٍ طبيٍّ إلى آخر، ولا تنسي الاستشارات والطب الشعبي ومن هذه القصص التي لا تنفع حتى للتسليّة..

لماذا أعاتب ولمن أشتكي؟ لماذا هذه الذاكرة المُلِحّة من غير قصد؟ إنها تُذكرنا بوجعنا، عجزنا، خوفنا، خذلاننا.. وتجعلنا بمصافِّ العاقيّن بالأبوين. “يمكن الغُلب أللي أنا فيه، ههههههه، نشّطَ ذاكرتي! ما بعرف. يوم طردتنا من بيتك المكَّون من غرفتين -كما طُردنا من بيوتنا- والذي كنت قد استأجرتيه بعدما تهجرنا كلنا من بيوتنا ولا يوجد لنا أي مكان نذهب إليه أنا وأولادي الأربعة وأختي وأولادها.. كنتِ قويّة في ذاك الوقت وكانت حجتكِ أن البيت لايتسع لنا جميعاً”.

آه يا أمي الضعيفة الآن ماذا نفعل؟ أين نذهب؟ تنسدُّ الأرضُ فتُفتح السماء.. هل فُتِحت الأرض يوماً وانسدّت السماء؟! آه يا أمي، آه يا الله، فالله دائماً أكبر!

يتبع..

Exit mobile version