سلام الغوطاني
التاريخ 13/1/2012
كثرة الحفر والمطبات على الطريق العائد من دمشق إلى العتيبة، سمحت للسائق باختلاس النظر، كلما ارتجّت سيارة “اللانسر”، إلى الضابط الجالس في المقعد الخلفي.
“أبو مؤيد” السائق الأشهر في “حران العواميد” ومحيطها استفاق مذعوراً هذا الصباح، إثر تلقيه اتصالاً عند الفجر: “معك ساعتين بتكون بكراجات البرامكة بدك تجيب سيادة العقيد أبو المعتصم، هوي طالبك بالاسم”. لم يستطع بوجهه الشاحب منع نفسه من التمتمة: “الله يستر، الله يستر، لا حول ولا قوة إلا بالله”.
استوقفه عن المسير ذهاباً وإياباً الاستفسار الحاني لوجه زوجته التي فقدت القدرة على النطق بعد اعتقال ابنها “مؤيد”. قال لها بصوت يشبه أغنية ما قبل المطر: “وحياتك يا حجة، التلفون مالو علاقة بحبيبنا مؤيد، بدهن ياني جيب أبو المعتصم”. هزّت برأسها مستغربةً هلعة. أجابها: “ أنتي عارفي أنو خيو لأبو المعتصم شيّعوا أول مبارح، والزلمي ما عطوه إجازة ليحضر، بس حكوا مبارح قدامي أنو انعرض عـ”العربية” كيف الشبيحة قتلوا قاسم، عارضين حتى كيف حرقولو شعر راسو وهوي عايش، وضربوه بالبلوك والسكاكين، كلو طلع. يعني معقولي أني أول واحد شوف العقيد، لك شو بدي قلو، كيف بدي واسيه؟”.
وضعت “أم مؤيد” يدها على صدر زوجها، وأشارت له باليد الأخرى على قلبه: “فهمت عليكي يا غالية يا أم الغالي، كلنا قلبنا معبا، وكلنا عنا مصايب، إى والله الكل مجروح، والكل واجبو يعضّد بعضو..”.
عند “دوار البيطرة”، ومع بدء مغادرة “اللانسر” بحمولتها لمدينة التاريخ، دمشق، مدينة التاريخ والياسمين.. والصمت، شعر أبو مؤيد أنه يستطيع الكلام وكأن زحام المدينة ليس إلا مجموعة كبيرة من آذان المخبرين المخيفة: “الله يرحمو الشهيد قاسم، كلنا منتعزا في، كان خي وحبيب للجميع، قبضاي وما بيخاف غير من ربو”..
العقيد الباحث عن الكلمات التي ضاعت بين ثنايا المشهد الصادم، رأى رأس قاسم المحروق، وكيف ضُرب بالحجارة، سمع صوت أنينه، وسمع صوت جوعهم للموت، سخريتهم الوقحة: “بدك الحوريات؟ إسا منطلعك لعندهن”!
رأس “أبو المعتصم” الذي كان مليئاً بالأجمل من الأحلام، أحلام تغذيها فكرة تغيير البلد: “لازم نرجع نحسّ إنها بلدنا، رح نظل نغيّر فيها لنشعر إنها رجعت بيتنا”، هكذا كان يقول. لكن هذا الرأس الجميل بأحلامه وأفكاره أُفرغ منها وامتلأ بشيءٍ واحدٍ فقط؛ شريطٌ كلّما انتهى يبدأ من جديد، يستمر بالدوران وبشكلٍ مرغوبٍ وقهريٍّ أيضاً، شريط مقتل “قاسم” أو بالأحرى طريقة مقتل “قاسم”. “كيف مسكوا لقاسم، وين شباب “الحرّ”؟ ما على أساس حاميين المظاهرة؟!” قالها بصوتٍ مخنوقٍ، كأنه قادمٌ من عمق مغارة آخرها هنا وأولها عند الإنسان الأول، قبل نوح والطوفان، قبل يونس والحوت. أولها عند أول إنسان شاهد عورته وامتشق السلاح.. والسؤال..
“أبو مؤيد” الفرح بكسر الصمت القاتل، واستجابة العقيد له لبدء مهمته الصعبة (رحلة المواساة) قال: “أبو المعتصم وحّد الله، هيك الله كاتب، خيّك قبضاي بس سمع في مظاهرة بحران العواميد دغري طلع، نصيبو هيك، وهوي راجع على موتورو من حرّان عالعتيبة مسكوا وصار يلي صار، وأنت عارف إنو “الحرّ” مش مسيطر عالطرق، الطرق كلها بإيد “النظام”. وين بتحب تروح أبو المعتصم؟ عالبيت ولا عالجامع؟ بلكي منلحق صلاة الجمعة، والله العتيبة كلها مشتقتلك”.
بعد دقائق من الصمت المعبأ بشرايين عنق العقيد كما لاحظها “أبو مؤيد” باستراقاته النظر، أجاب “أبو المعتصم”: “لا ما بدي جوامع، خذني عالتُربة، وبعدين لعند الشباب، أني عـ”الشام” معش راجع، ويشهد الله عليي ما بفوتها غير ونحنا رايحين نسقّط هالحقير الوسخ..”.
قبورنا جزر معزولة تُزار لتجديد العهد… هي اجتماع الصراخ والحزن والأهازيج، اليأس والأمل. هي الثمن والمجد، الموت والولادة. هي ملايين القصص..
لن ينسى “أبو مؤيد” ما حيي صرخة انشقاق “أبو المعتصم” لحظة نزوله من السيارة. فشعر أن الأرض ارتجّت، والضوء خفت! كلماتٌ غير التي تُقال، وأحرفٌ غير التي تُلفظ.. مزروعةٌ تلك الصرخة بها!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج