أنزل رجليه عن طاولة المكتب، تمطّى قليلًا اعتدل في جلوسه، خبط بكلتي يديه على الطاولة،
وقف شامخًا بشاربيه العسليين، وصرخ بصوته الجبليّ: “يا أبا أزدشير الغالي، أحضر لي العناصر على الفور”.
حان الآن بتوقيت الملل موعد إيقاظ العناصر من قيلولتهم والنزول إلى الأقبية في جولة على المهاجع والزنازين، لا لشيء؛ بل لأن الضابط يريد مناظر تصيبه بنوبات ضحك هستيري وترفع رصيد ذاكرته وخياله من الحكايا لينافس أقرانه في السهرات. تجمّع العناصر، البداية كانت صفعة على نقرة أحدهم: “يا بني بكّل أزرار البدلة”، التفت إلى عناصره التفاتة العارف: “انزلوا…” بدأت الجولة، العتم، البرد، الرطوبة، رائحة عفنة، رائحة القماش المبلل العطن، الدم، الوسخ، رائحة البول والبراز، كل تلك الروائح مجتمعة لا تشكّل إزعاجًا لأنف الضابط، لا شيء يشكّل فارقًا لا الروائح لا العتمة لا أصوات الأنين ولا الصراخ ولا أصوات الضرب، بدا الأمر اعتياديًا تمامًا إلى أن تناهى صوت من بعيد صوت عود.. صوت أغنية؛ إنه سعدون الجابر يغني يا هوى الناس، تسمّر الضابط في مكانه تسمّر شعره أيضًا وشعيرات أذنيه، اصفرّ أنفه وتضخّم وصار خرطومًا، همس لأبي أزدشير: “إما أننا نستضيف سعدون جابر في الفرع أو أن كلبًا هرّب راديو للمحابيس؟! من هرّب راديو للمحابيس ولاااااك؟؟!”
التفت إلى العناصر بحقد، تجمّد العناصر، تلعثموا، اختنقوا بالهواء، وأنكروا، واستنكروا، والضابط يرتجف غضبًا، أشار لهم بالصمت ومشى كأنما يمشي على أذنيه، لحق الصوت تبعه كسلوقي وصل إلى الزنزانة الجماعية وبهدوء تراجع قليلاً إلى الخلف، ابتلع نفَسًا ضاعف حجم صدره، ونفخ خديه من الداخل، تهيّأ… وبلبطة واحدة خلع باب الزنزانة. صمتٌ مطبق، تجمّد الهواء، انقطع التنفس، وشُلّت الأجساد المتكوّرة على الرعب أصلًا، لا راديو ولا مسجلة ولا من يحزنون، كل الحكاية أن سجينًا كان يعزف على العود ويغني الأغنية.
“يا هوى الناس.. يا ديوث! من هرّب لك العود يا كلب؟” التفت إلى العناصر: “فتّشوا الزنزانة واشحطوا الكلب وعوده إلى مكتبي”. اقتحم العناصر الزنزانة وسط سيلٍ من الشتائم والضرب المبرح، خرّبوا ومزّقوا كل شيء، فتّشوا الجدران والبلاط والبطانيات العسكرية، صادروا المسابح التي صنعها السجناء من عجو الزيتون، صادروا كيسين من التبغ وزوجًا من الجوارب وتمثالًا من الخبز، ورماد السجائر وشحطوا السجين المسكين مع العود إلى مكتب الضابط ورموه على بلاط الغرفة. لم يقوَ على الوقوف على قدميه، كان غارقًا في الرعب وفي سرد احتمالات الموت بين يديّ الضابط وأنه سيقتله أو يعطبه ويصادر العود. وقف الضابط بشكلٍ هتلريٍّ مسرحيّ وجهه إلى الشبّاك، بقي خمس دقائق يتأمل الفراغ الإسمنتي ثم استدار فجأة وركض إلى السجين الذي لم يجرؤ أن ينبس بحرف، أمسكه من رقبته بلؤم وغضب وصرخ: “أستطيع الآن أن أدفنك في هذه الغرفة تحت قدمي، لكن سأمنحك فرصةً للاعتراف: من الذي هرّب لك العود؟” عرف السجين حقّ المعرفة أن ذاك المعتوه سيقتله بدمٍ بارد، قال له: “سأخبرك بكل شي بكل شيء يا سيدي لكن أرجوك أن تمنحني الوقت والأمان”.
نظر الضابط بتوعّد وأفلت رقبة السجين وقال: “عليك الأمان لكن أريد كل شيء بالتفصيل الممل”. احتضن الضابط العود برفق وجلس إلى المكتب وضع العود أمامه وأمر السجين بالجلوس قبالته وبدأ السجين: “يا سيدي لم يهرّب أحد محدّد لي العود، هرّبه الجميع لي”. انفعل الضابط: “الجميع هنا شريك في الجريمة؟ كيف الجميع؟” أجاب السجين: “أنا صنعت العود بنفسي”. فضحك الضابط باستخفاف وقال: “أنت يا ملعون الوالدين؟ كيف؟” ردّ: “المواد كلّها متوفّرة، أنتم تجلبون لنا الطعام بسحارات خشبية، كنت أسرق أضلعًا من السحارة وأحفّها بشفرة الحلاقة أنقعها بالماء، وأشويها بلهب ولاعة السجائر لتنحني كي أصنع قفص العود وألصقت الأضلع ببعضها بالخبز والسكر المذابين بالماء، ومرّة سرقت أرجل سحارتين لأصنع زند العود وفرسه، ونحتّ مفاتيحه من أربعة أقلام رصاص، نسلت خيوطًا من جوارب النايلون وجمعتها لأصنع الأوتار، أما الريشة فقد صنعتها من ياقة قميصي، انظر يا سيدي قميصي مبتور الياقة”.
كان الضابط يكتم دهشته وذهوله مع كل كلمة تخرج من فم السجين، أمسك العود، قلّبه بهدوء، حدّق بالسجين بجحوظ: “كيف زيّنت العود”؟ ردّ السجين: “زيّنته بالقماش، ثمة قماش متآكل عندي زينت به العود، إنه عود حقيقي و صوته بديع يا سيدي، صوته حنون وأنا والعناصر بريئون، لم يهرّبه أحد لي يا سيدي”. وهنا نظر السجين في عيني الضابط الشاردتين بالعود، شعر بغصة كبيرة، كل ذاك الجهد الذي بذله سيعلّق في بيت الوحش الذي سيوسعه ضربًا الآن، سيزيّن به بيته سيعرضه على ضيوفه ويباهي به أقرانه، وسيتعلم أولاده العزف عليه وربما يهديه لأحد رؤسائه أو يبيعه بمبلغ هائل من المال وربما… “سأتحمل أيامي المقبلة في المنفردة لكن المهم: نجا العود”.
رن الضابط الجرس دون أن ينظر إلى السجين، استدعى العناصر ليأخذوه، وقف عنصران عند الباب، تهدّج صوت الضابط: “خذوا هذا الكلب إلى المنفردة”. رفعاه من تحت إبطيه وما إن أداروا ظهورهم ومضوا إلى الباب حتى سمعوا خطوًا ملتهبًا ودويّ ضربة هائلة على ظهر السجين أوقعته أرضًا، وتناثرت شظايا العود في المكان وطنين تحطّمه، “أنت صنعت العود؟” صرخ الضابط “أنت صنعت؟! يا حشرة، يا تافه، أنت تحتقر عقلي وتسرق وتستغل ما أمنحه لك، من سمح لك أن تصنع عودًا؟ من سمح لك بالغناء أصلًا؟! سوف أصنع من جلدك عودًا وأعزف عليه يا حقير يا سافل”. وأمسك ما تبقى من جسم العود وصرخ: “انظر إليه، هذا هو عودك يا بخش الفن” وهوى به على رأس السجين وبدأ يدوس بشكل هستيري الشظايا وهو يشتم ويرغي ويزبد، انسحب العنصران مع السجين المدمى باتجاه المنفردة.. وكان كل ما بقي من العود؛ الطنين الأخير في رأس السجين من أثر الضربة التي قصمت العود على ظهره.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج