Site icon مجلة طلعنا عالحرية

وهل يُجنى من الشوك العنب؟ / يوسف المنجد

رؤية حول حرية الاعتقاد في الإسلام  

لعل من البداهة القول أن جواز فرض (المعتقد الحق= الدين الحق) بالقوة والإكراه، يعني  ضمنا الاعتراف بالحق نفسه لكل من يعتقد بامتلاك الحقيقة. وهنا معضلة كبيرة سوف تفضي إلى الفوضى والخراب وسفك الدماء بلا ارتواء (كما هو حاصل).

 المعضلة تأتي من أن كل صاحب معتقد- وهذا من طبائع الأشياء – يرى في معتقده الحق وفي غيره البطلان الجزئي أو الكلي، سواء كان رأيه في معتقده نابعا من قناعة حقيقية أو انتقل إليه وراثة. وبالتالي فإن بقاء الإيمان بوجوب تعميم هذا الحق ولو بتوسل القوة، يعني القبول باستمرار قتل الإنسان باسم الله.

من جهة أخرى، فإن الإكراه يعني استلاب إنسانية الإنسان المتمثلة في حريته في الاختيار، ناهيك عن أنه  يتنافى مع طبيعة الاعتقاد نفسه، فالفرض بالقوة أمر يعاند القناعة الحرة  التي هي السمة الأساس لأي معتقد، فالحرية شرط أساس لصحة الدين، ومن دونها لا يمكن أن يبقى دينا.. وآية (لا إكراه في الدين) هي قانون نفسي واجتماعي يتصف بالعمومية والاطراد،  فهي ليست نهيا عن الإكراه، بقدر ما هي نفي لإمكانية تحقق الدين بالإكراه، فالدين صنوٌ للقناعة، والقناعة هي القاعدة التي يتأسس عليها والتربة التي تنمو فيها بذوره. فالنفي الوارد في الآية، يتضمن لا معقولية الإكراه وعبثيته ولا جدواه. وهو أيضا إعلان لوجوب وقف العبث والمتاجرة باسم الله، فهو لا يقبل أن يساق الناس إليه بإرهاب السيف، وإنما يريدهم أن يأتوه طوعا. بل إن من يأتيه كرها لا يأتيه على الحقيقة، فالله تعنيه الضمائر لا المظاهر.

ومن مقتضيات حرية الإنسان في الاختيار والاعتقاد أن تكون ملازمة له ومستمرة معه، بمعنى أنه لا يفقد حريته بمجرد اعتقاده، وإعلان الإيمان لا يعني التوقيع على صك التنازل عن الحرية، فمن طبيعة الإنسان أن  تتبدل قناعاته، لذلك فهو لا يجبر على البقاء في معتقد فَقَدَ القناعة به والشعور بالانتماء إليه. ومن ثم فكما لا يجوز الإكراه على الدخول في الدين، كذلك لا يجوز الإكراه على البقاء فيه، ولا على الالتزام بشرائعه؛ لأن من يملك المحاسبة وبالتالي المعاقبة على ذلك هو الذي فرضها. وليس من حق أحد مهما علا شأنه أن يسطو على سلطة الله في محاسبة الناس، إلا أن تتحول الشريعة إلى قانون عام يتواضع الناس على الخضوع له باختيارهم، وعندها يمكن إكراههم عليه كقانون يُنَفَّذ، لا كدين يُلتَزم.

 أما حديث (من بدل دينه فاقتلوه) فهو على فرض صحته، ينتمي إلى الطبيعة القانونية لا الدينية،  أي هو مرسوم سياسي، اقتضته الظروف المحيطة بالدولة الناشئة التي شكل الدين محورها الرئيسي، والتي تمثلت في المكائد التي كان يمارسها أعداؤه بهدف تمييعه وصدِّ الناس عنه، وبالتالي زعزعة استقرار دولة المسلمين وإضعافها. وهي حادثة تمَّ توثيقها قرآنيا :(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) أل عمران /72، فكان القرار الذي اتخذته القيادة السياسية ممثلة  بالنبي، ليس بهدف إكراه الناس على البقاء في الدين، وإنما وضع حد للمتلاعبين والعابثين. وهو قرار  مؤقت انتهى بانتهاء  الظروف التي استوجبته، بعد أن تمكنت دولة المسلمين، ولم تعد تلك الممارسات الصبيانية قادرة على التأثير فيه. ناهيك عن أن ذلك القرار كان بهدف الردع وليس التنفيذ العملي، بدليل أن النبي لم يطبقه على أحد. وهذا لا يعني أنه لم تقع حوادث ارتداد، بل إنها وقعت بالفعل، ولكنه لم يلاحق المرتدين، انسجاما مع النهج القرآني الذي حصر أمر محاسبتهم بيد الله. فالقرآن خلو من أية عقوبة دنيوية  تترتب على الردة، وهذا دليل على كون العقوبة التي جاءت في الحديث  قرار سياسي لا حكماً دينياً. إضافة إلى أن المتأمل للآية التي تحدثت عن الردة وهي: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة /217، أقول: إن المتأمل لهذه الآية في ضوء المبادئ الكلية للقرآن،  يدرك أن المقصود بالارتداد ليس المعنى المتبادر، وإنما هو ما يمكن تسميته خيانة الدين، أي العمل بالضد من مبادئه مع زعم القناعة والالتزام به، والتمسك بشعائره وأشكاله الظاهرة، أو الانتقال إلى غيره ظاهريا مع وجود القناعة التامة به جريا وراء مكسب دنيوي من مال أو سلطة،  فتلك هي الردة الحقيقية، أما من تتغير قناعاته بشكل حقيقي فلا نظن أنه يدخل في خانة المرتدين؛ لأن الدين قناعة، يستمر باستمرارها، ويتلاشى بتلاشيها. وانسجام الإنسان مع ذاته وقناعاته هو قمة الأمانة، ولا يمكن لإنسان يخون ذاته وقناعاته أن يكون مخلصا لله ولدينه.

إنه من غير المعقول أن ينهى الله عن الإكراه في الدين، وينفي إمكانية تحققه مع الإكراه، ويقرر ذلك كسنة إلهية إجتماعية،  ثم يمارسه هو، فيعاقب المغيرين لدينهم الذين لم تتشكل لديهم القناعة، أو تغيرت قناعاتهم، فأولئك طلاب حقيقة، وما داموا جادين في البحث عنها، فهم يسيرون في الدروب التي تقود إلى الله وترضيه، حتى لو ظهروا لعباده بخلاف ذلك.

Exit mobile version