نجحت روسيا في تمكين تموضعها في سوريّة حتى اللحظة، ولكنها فشلت في الحسم. بينما يفشل السوريون في إعادة تموضعهم في بلدهم ويحتفظون بحقهم في الحسم. وهذه حالة متقدمة حققها الروس في سيرورة إعادة تموضع روسيا في النظام العالميّ من البوابة السوريّة، وربما في سيرورة إعادة بناء علاقات النظام العالميّ من جديد. وأما عن حالة تراجع السوريين فتحتاج وقفة مراجعة ومبادئ عمل جديدة.
تتقدم روسيا بالرغم من العقوبات الاقتصاديّة وتدني سعر النفط. فالخلل بين قدرتها الاقتصادية وبين قدرتها العسكرية والمرتكز إلى فَرَض أنَّ الخلل بين القدرتين يضعف فاعلية الدور الدوليّ لروسيا، غير صحيح. إنها تتقدم في منع المواجهة الدوليّة وتبقيها في حدود كلاميّة، ومنع أنْ يطالها الجهاديون ضمن حدودها، وتتقدم في احتلال سوريّة. بينما تتراجع المعارضة السوريّة بكافة ألوانها لتفقد ما كانت قد حققته بالأمس القريب. فيتراجع الجهاديون مثلاً من مرحلة “إدارة التوحش”، في المناطق التي سيطروا عليها، ومن مرحلة “التمكين” أي إقامة الدولة الإسلاميّة، إلى استراتيجية سابقة ومرحلة سابقة هي “شوكة النكاية” والاستنزاف المرتبط بالصبر والزمن ليراكم خسائر العدو. وكذلك يتراجع المعتدلون من مرحلة إسقاط النظام والمجالس المحليّة، إلى مرحلة صبّ اللعنات على العالم وإسقاط دي مستورا. فالحسم بحالتنا السوريّة يأتي بالنقاط المتراكمة لا بالضربة القاضية.
كانت إمبراطورة روسيا “كاترين الثانية” قد قالت مجازياً، في القرن الثامن عشر: “سوريّة مفتاح بيتي وغرفة نومي” وكانت تقصد جعل سوريّة بوابة روسيا ونافذتها على العالم، وجعل أمن روسيا من أمن سوريّة. وجاء “بوتين-لافروف” بالتطبيق الحرفي لما هو مجازي في القرن الواحد والعشرين.
فتحولت سوريّة إلى غرفة نوم للروس لا للسوريين. وتمكنت روسيا من المفتاح السوريّ الذي يفتح أبواب إعادة بناء علاقات النظام العالميّ من جديد بما يتناسب مع مصالح روسيا.
وبالرغم من هزيمة الاتحاد السوفييتي سابقاً في الحرب الباردة تواكباً مع هزيمته في أفغانستان، إلا أنه تقلّص إلى روسيا التي ما زالت عضواً دائماً في مجلس الأمن، يستخدم الفيتو خمس مرات متتالية ضد الشعب السوري ولصالح مصالحه الخاصة مع شلّة من السوريين.
تلك الهزيمة التي تتمثل آنذاك في تفشي المافيات، وبيع السلاح النووي في السوق السوداء، وبيع القطاع العام بأرخص الأسعار، وإرسال اليهود إلى إسرائيل مقابل القمح، على الرغم من أنها كانت أكبر دولة منتجة للقمح قبل الهزيمة، وتغيير عَلم المنجل والمطرقة، وتحطيم تماثيل لينين وستالين وماركس، وانفصال عدة جمهوريات عنها، وتقلص مساحتها من 22 مليون كم إلى 16 مليون كم، وانتشار المواطنين الروس في دمشق لبيع الأدوات الكهربائية والألبسة للسوريين على البسطات، وتوجه أعداد كبيرة من فتياتها للمواخير الإماراتية، وبروز حرب الشيشان والديون الروسيّة.. إلا أن بوتين نجح بتقليص الدين ولجم المافيات وإنهاء الحرب الشيشانية بهمجيّة. والآن ينجح في سوريّة لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها في سياق توصيف الحالة.
وإذا كان الحال كما وصفنا، فإنَّ على السوريين من أجل هزيمة الروس الآن وهنا بدء العمل بمبادئ ثلاثة هي:
1 – العمل بمبدأ الولاء الوطنيّ، لا مبدأ الولاء فوق الوطنيّ؛ أي الولاء الدوليّ والإقليميّ والدينيّ. وبالوقت نفسه رفض العمل بمبدأ الولاء تحت الوطنيّ؛ أي المذهبيّ والقبليّ والعشائريّ.
2 – مبدأ السيادة المحايد للدولة تجاه مكوناتها الاجتماعيّة والقوميّة والدينيّة والسياسيّة.
3 – مبدأ التواصل والتعامل الدوليّ، لا إدارة الظهر للعالم والاكتفاء بلعنه.
وقد بات هذا ضرورة إزاء التلاعب بالجغرافيا السياسيّة السوريّة. فنادراً ما اختفت دولة وطنيّة عن الوجود منذ معاهدة وستفاليا 1648 التي أرست الدولة الوطنية وسيادتها بالرغم من الاستعمار والفوضى في العلاقات الدوليّة بعدها. ولكن اختفت إمبراطوريات كالروسيّة والنمساويّة والسويديّة والعثمانيّة..
وإذا ما راجعنا أنفسنا نجد أنه لا بدّ من الفصل بين سورية والعراق وبينها وبين ليبيا وبينها وبين اليمن.. أي إعادة الوطنيّة السوريّة بوصلة يهتدي الجميع بها؛ لاكتفاء شر الآخرين وبدء مقاومة وطنيّة تستنزف الروس وتجعل التكاليف باهظة، وتطال ديارهم بخلخلة الأمن والاستقرار، لتشكيل رأي عام روسي يقول بالانسحاب من سوريّة، وعندها يستقيم تموضع السوريين في بلدهم وفي العالم من جديد.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.