المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
يمكننا أن نقول بكلِّ ثقةٍ: إن نشطاء منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدنيّ وحراكهم البسيط خلال فترة القمع الشديدة كان له الأثر الأساسيّ بإطلاق شرارة الاحتجاجات. فقد كان هؤلاء النشطاء وعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يحضّرون لاعتصاماتٍ سلميّةٍ لم تتوقف خلال العقد السابق، كان آخرها يوم 16 آذار 2011 أمام وزارة الداخلية، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وأنشؤوا تنسيقياتٍ عبر هذه الشبكات، كان أولها وأهمّها وأول من واكب تطورات الاحتجاجات الشعبيّة وقادها عملياً هي لجان التنسيق المحلية، التي سرعان ما انفصلت عنها هيئة أخرى هي الهيئة العامّة للثورة السورية. ولم يتوانَ نشطاء حقوق الإنسان عن مواكبة التطورات في سوريا؛ فتمَّ تأسيس مركز توثيق الانتهاكات في سوريا بمبادرةٍ من المحامية “رزان زيتونة”، لعله مازال المرجع الأكثر دقةً ومصداقيةً للانتهاكات في سوريا، رغم تغييب مؤسسته “رزان زيتونة” من قبل المجموعات المسلّحة بمنطقة دوما في ريف دمشق حتى الآن، كما تأسست الشبكة السورية لحقوق الإنسان؛ وربما مازالت هاتان المنظمتان الأكثر حضوراً وفاعليةً في سوريا ما بعد الثورة، بالإضافة للمرصد السوري لحقوق الإنسان. وتأسس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
وفي الواقع إن حالة الانفلات عن قبضة الأمن السوري في المناطق التي لم تعد خاضعةً لسيطرته أو مناطق اللجوء، وسعي الدول الغربية لتقديم دعمٍ ماديٍّ لمنظمات المجتمع المدني، أدت إلى إقبالٍ كبيرٍ على تأسيس منظماتٍ هائلة العدد إذا ما تمَّ مقارنتها بما قبل الثورة. فتمَّ تأسيس ما يزيد على ثلاثين منظّمة تتخذ حقوق الإنسان عنواناً لها، بالإضافة لما كان موجوداً سابقاً.
فإذا أضفنا المنظمات والجمعيات والنقابات ولجان الإغاثة والإعلام وغيرها التي نشأت كمنظمات مجتمع مدنيٍّ فإننا نحصل على عدد بالعشرات، وجميعها اعتمد على تسجيلها خارج سوريا؛ حيث إن النظام لم يسمح حتى بعد الاحتجاجات بتسجيل منظمات خاصّة بحقوق الإنسان، وإنما فقط نشأت منظماتٌ خاصّةٌ بالإغاثة تحت سيطرة وإشراف النظام للتمكن من استجلاب مساعداتٍ للإغاثة كان النظام يضع يده عليها فوراً ويقوم ببيعها للمواطنين أو يوزعها على الأشخاص الموالين له بشكلٍ تامٍّ. والمناطق التي خرجت عن سيطرته لم تنشأ فيها إداراتٌ مختصّةٌ بتسجيل المنظمات، لذلك كان تسجيل المنظمات يتمركز في تركيا أولاً ثم أوروبا وقليل منهم كانت أمريكا مركزاً لهم.
وكان لإنشاء وتسجيل المنظمات بكثرة خارج سوريا تأثيرٌ كبيرٌ على توجهاتها، حيث إنها كانت جميعها بحاجةٍ لتمويل نشاطاتها، هذا ما فرض عليها شروط الممول من حيث وجهة النشاط وطريقة وحجم إعلانه والإفصاح عنه من جهة، ومن جهةٍ أخرى فرض عليها عملاً مؤسساتيّاً تنظيميّاً محترفاً لقبول التمويل. وهذه المسألة لها وجهان إيجابي وسلبي؛ إيجابيٌّ من ناحية تعليم السوريين على العمل المحترف والمنظم الذي لا يعتمد على الأشخاص وإنما على مؤسساتٍ، والشفافية بالصرف والعمل.أما الوجه السلبي: فيتمثل بتحويل العمل التطوّعي المتفاني، الذي كان يقوم به السوريون من كلّ قلوبهم وكانوا يدفعون من جيوبهم الخاصّة لتمويله، إلى وظيفةٍ عادية براتب محدّدٍ يقوم بها أشخاص المنظمات، وهذا ما أضعف الروح الحماسية المندفعة باتجاهاتٍ إنسانيّة، الروح التي تميّز بها الناشطون السوريون.
وبتحوّل النشاط الحقوقي والإنساني في سوريا لعملية احتراف، أصبح هناك مؤثران على العمل والنشاط الحقوقي للمنظمات السورية، وهي الخلفية الإيديولوجية للناشطين، والخلفية السياسية للممولين، وغالباً ما يلتقي هذان المؤثران بجهةٍ واحدة، ولاسيما بالنسبة للمنظمات القديمة التي كانت قائمة قبل الثورة بفترة طويلة. أما بالنسبة للمنظمات الحديثة فهي كانت بمعظمها مشكّلة حسب طلب الممول ومن أشخاصٍ يتمُّ اختيارهم من قبله في أحيان، فأصبح تشكيل المنظمات في أحيان مجرّدَ وسيلة كسب عيشٍ للسوريين، وعملاً يقوم به مقابل أجر، ويتمُّ اختيار المشاريع الممولة حسب طلب الجهة الممولة.
وكان هناك عمليتان مشكلتان بموضوع التمويل أولها قيام النظام بإنشاء جمعيات تابعة له وخاصة بموضوع الإغاثة، كانت تستقطب التمويل ومواد الإغاثة وشكلت أكثر من منافس للجمعيات الحقيقية، بل شكلت الركن الأساسي، خاصة وأن منظمات الأمم المتحدة كانت وبحكم تركيبتها تفضل التعامل مع منظمات السلطة السورية بهذا الموضوع وتتجاهل تماماً المنظمات السورية الفاعلة مما أدى أن تكون مواد الإغاثة وسيلة قمع جديدة بيد النظام لتجويع المناطق المحاصرة وكسب تأييد مواليه بتوزيعها عليهم، ومصدر كسب مادي ببيع مواد الإغاثة للسوريين عبر منافذ البيع الرسمية، والتهديد الآخر هو لجوء جهات ممولة لإنشاء منظمات شكلية وبأهداف لا يحتاجها بشكل ملحّ الوضع السوري لصرف الأموال أولاً، وللادعاء أن هناك مساعدات كبيرة توجه للشعب السوري، دون أن يكون لها أثر حقيقي على الأرض.
ويمكن أن نلمح الاختلافات بين المنظمات بموجب ذلك في نشاطاتها والفئات التي تستهدفها والبيانات التي تصدرها، فنلاحظ أن التنظيمات التي تتأثر بالإيديولوجيا الإسلامية تركز نشاطها على الانتهاكات التي يقوم بها النظام أو المجموعات والميليشيات التي تحارب إلى جانبه، مع إعطائها الصفة الطائفية والدينية التي تنتمي إليها، مع إعطاء الصفة الطائفية والدينية للضحايا، وتجاهل الانتهاكات التي تحصل بالمقابل من الطرف الآخر بالقتال والتعتيم عليها، إن لم نقل تبريرها تحت غطاء رد الفعل. أما المنظمات التي يغلب عليها طابعٌ علمانيٌّ قوميّ أو يساريّ وممولة من جهاتٍ محدّدة، فتركز نشاطها على الانتهاكات التي تقوم بها الأطراف الإسلامية من داعش والنصرة أو حتى مجموعات “الجيش الحر” أو أي مجموعةٍ تحارب النظام وتصدر عدّة بياناتٍ بشأنها، بينما تتغافل وتتجاهل الانتهاكات التي يقوم بها جيش النظام أو المجموعات التي تحارب معه، وتبرّرها بحجة مقاومة التطرف والإرهاب.
وكذلك يظهر هذا الفارق جليّاً بين المنظمات الحقوقيّة التي تنتمي لقوميّاتٍ محدّدةٍ كالعربية أو الكردية أو الآشورية، ففي حين تركّز المنظمات العربية وبشكلٍ كبيرٍ على التجاوزات والانتهاكات التي تقوم بها وحدات حماية الشعب الكردية تجاه المناطق العربية والمواطنين العرب في المناطق التي تسيطر عليها هذه الوحدات، وتنتقد بشدّةٍ إجراءات إنشاء الوحدات الإدارية الكردية تمهيداً لاستقلالها عن سوريا، وتتجاهل ما يقوم به بعض أبناء المنطقة من العرب تجاه الأكراد، وتتجاهل تاريخ الانتهاكات التي حصلت ضدَّ الأكراد خلال فترة حكم البعث لسوريا، نرى أن المنظمات الحقوقيّة الكردية تدافع عن تصرّفات وحدات حماية الشعب الكردية المسلّحة وتتغاضى عن انتهاكاتهم حتى ضدَّ الأكراد أنفسهم، تحت غطاء محاربة الإرهاب وطرد داعش والتنظيمات المتطرّفة من مناطقهم، وتبرّر هذه التصرفات ببياناتٍ توضيحيةٍ لهذه التصرفات. وربما نجد هذا الموضوع بشكل صارخ في التقرير الذي صدر عن منظمة العفو الدولية حول ممارسات قوات حماية الشعب التابعة لحزب الـ (ب و د) وردود الفعل الغاضبة والمستنكرة له من منظمات كردية من المفترض أنها تعنى بحقوق الإنسان.
والمنظمة الآثورية تهتم بالآشوريين وسط انتهاكات تطالهم من كلِّ الأطراف العربية والكردية ومن النظام والمجموعات المسلّحة، وهي لا تجد إلا الغرب منجداً لهم من هذه الانتهاكات فيكون مركز اهتمامها منصبّاً على وقف الانتهاكات التي تحصل بحقِّ هذه الفئة فقط دون أيِّ اهتمامٍ بارتباط هذا الموضوع بمسألة الحقوق في سوريا كلها.
وهناك منظماتٌ تتّخذ موقفاً وسطياً للحفاظ على علاقاتٍ أو أمانٍ من كلِّ الأطراف فتتجاهل الانتهاكات الكبرى التي تحدث في سوريا، وتركز فقط على قضايا جانبية تتعلّق بحقوق فئاتٍ محدّدة كحقوق الأطفال أو النساء أو نشطاء محدَّدين أو غيرها من الفئات دون الدخول بمسألة المسؤولية عن هذه الجرائم وتكتفي بمطالبتها بتغيير التصرّفات ووقف الانتهاكات هذه فقط، دون التعرّض أبداً لمسألة الانتهاكات الكبرى والفاضحة.
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية