الفيديو قبل التدمير، تصوير أسامة نصار
يقف وادي بردى اليوم بين خيارين أحلامها مرّ؛ فمن جهة يخشى أهله أن يكون التهجير هو المصير الذي ينتظرهم، فيميل بعضهم للقبول بعرض النظام للاستسلام غير المشروط ومغاردة الثوار نحو الشمال، لكنهم في الوقت ذاته لا يثقون بهذا النظام الذي يثبت يوماً بعد يوم أن خططه في تغيير التركيبة السكانية لمحيط دمشق سائرة قدماً دون تردد. وهو مستعد لاستخدام أعتى أشكال القوة لتأمين محيط العاصمة وإحلال سكان جدد مكان أولئك الذين ثاروا عليه، فيميلون حينها إلى مواصلة القتال ويقضون لياليهم الباردة في الصلاة إلى الله على أمل النصر!
ظنّ أهالي وادي بردى أن التفاهم الضمني مع النظام والقائم على الأمن وعدم الاقتحام مقابل أمن دمشق المائي سيحميهم من بطشه، لكنه وإذ أنهى تفريغ حلب الشرقية، وقبلها داريا وحمص والزبداني، وفرض الاستسلام غير المشروط على الهامة وقدسيا والتل وقبلها أشرفية الوادي، يلتفت اليوم إلى وادي بردى، طالباً من ثواره الاستسلام والتسوية أو الرحيل.
لا شكّ في أن وجود نبع الفيجة في هذا الوادي أخّر مخططات النظام في استعادة السيطرة عليه، وربما أنه حمى الوادي فعلياً من اقتحام عسكري كان مرتقباً منذ أن خرج الوادي عن سيطرته عام 2012، وبعد محاولة اقتحام فاشلة. لكن النظام شنّ غارات بالطيران الحربي والبراميل عام 2015 بعد أن قام الثوار بقطع المياه عن العاصمة دمشق في محاولة يائسة لليّ ذارعه تضامناً مع الزبداني التي كانت تشهد حملة جوية لم يسبق لها مثيل، أدت في النهاية إلى تهجير أهلها جميعاً، باسثناء عدد قليل من الثوار الذين بقوا فيها، وبعد أن أصبحت ورقة ضغط في معادلة مضايا والزبداني/ كفريا والفوعة من جهة أخرى.
حول النظام معركته مع الثوار إلى معارك محلية، أحسن إدارتها. وساهم تشتت الثوار وتحول الكثير منهم إلى “مجاهدين” محليّين في إنجاح هذه الاستراتيجية. ولن ينجو وادي بردى، فهو ليس استثناء على ما يبدو، ويحمل أهمية استراتيجية بسبب وجود مصدر مياه الشرب الأساسي للعاصمة فيه، ولوقوعه على محور جنوب لبنان/ طرطوس الذي تسعى إيران وحزب الله إلى تنظيفه لجعله محوراً شيعياً موالياً بالكامل، وهو من الناحية العسكرية، في موقع ضعيف جداً، إذ تحيط به قوات النظام من كل جانب، وتحتل تلاله وجباله؛ فهو في مرمى مدافعها ودباباتها، ناهيك عن الطيران الذي استهدفه ولازال يستهدفه، ويمكن أن يقلب المعادلة الحالية خلال أيام قليلة؛ حيث لازال الثوار ينجحون في صدّ محاولات الاقتحام من محوري الدريج- بسيمة والديماس- دير قانون. لكن التجارب التي رأيناها في المناطق الأخرى لا تشي أبداً بأن النظام سيثنيه صمود الثوار، وأن اقتحام الوادي عنوة سيعني تهجير أهله دون شكّ.
على المقلب الآخر للمشهد الدموي الذي نراه في الوادي، حيث يتعرض للقصف اليومي، وتحاصره القناصة من جميع أطرافه، ويعاني سكانه من غياب الكهرباء والماء والاتصالات، وغياب أي معلومات دقيقة عن مدى قدرته على احتمال الحصار، نرى في العاصمة دمشق تذمراً غير مسبوق من أهلها، بسبب ما حلّ بنبع الفيجة من خراب، علماً أن المعلومات التي أتت من المنطقة تؤكد بما يدع مجالاً للشكّ، بأن الخراب الذي حلّ به وخروجه عن الخدمة نجم عن سقوط عدد من البراميل المتفجرة عليه ألقتها مروحيات النظام، وأن أربعة من شباب القرية الذين نذروا أنفسهم لحماية النبع قد استشهدوا جراء الغارة الأولى التي استهدفته.
يحتل نبع الفيجة مكانة سامية في نفوس أهالي عين الفيجة، فهو مصدر فخر لهم، وهم يتباهون بنسبته إلى قريتهم وبانتسابهم له، ويرون فيه مصدر قوة لهم، وقد سعوا لعقود طويلة إلى حمايته، رغم أنهم دفعوا ثمناً باهظاً لوجوده في قريتهم؛ فقد استملكت أراضيهم على مدى العقود الماضية تباعاً، وأصبح الباقي منها حرماً لهذا النبع، وكلفهم ذلك الكثير.
لقد شربت دمشق من مياه الفيجة منذ عهد الرومان الذين كانوا أول من جر ماء نبعها إلى هذه المدينة، وفي عهد ناظم باشا صاحب القناة المشهورة التي وزعت المياه على خمسمئة سبيل في دمشق، ثم بفضل مشروع لجنة مياه عين الفيجة الذي تم في العهد الفرنسي، وقام عليه الحفار والخوري ورجالات السياسة والتجارة في دمشق لخدمة أهلها، إلى النفق الجديد الذي شُقّ في نهاية السبعينات ليروي من لم تكن تصلهم مياه الفيجة في دمشق وبعض ضواحيها.
يشعر أهالي عين الفيجة اليوم بأن هذه التضحيات الكبيرة وحرصهم خلال سنوات الحرب الخمسة التي رافقت الثورة على سلامة النبع وحمايته من أي ضرر أو تخريب قد يلحق به تذهب سدى، وأن أهالي العاصمة يتحدثون بكثير من السوء عنهم دون معرفة بما يقومون به، ويلقون التهم عليهم جزافاً، وينجرون وراء الروايات البائسة والخبيثة التي يروج لها إعلام بشار الأسد، وصفحات الموالاة على فيسبوك، كصفحة دمشق الآن التي تنضح بالكراهية والحقد، وصفحة يوميات قذيفة هاون التي تتسم بالرخص والتهريج في وقت نحن في غنى فيه عن مثل هذا العبث غير المجدي.
في الوقت الذي يغامر النظام المجرم والمجنون بمصدر الماء الوحيد الذي يروي العاصمة، يحوم شبح العطش فوق دمشق، ويقبع أهالي الوادي الذي مدها بالماء وروى أراضيها وغوطتيها وأهلها لقرون طويلة تحت القصف والجوع والعطش والبرد والخوف وشبح التهجير.