عبد الناصر كحلوس
هبت رياح الربيع العربي بداية 2011، ووصلت سورية “مملكة الصمت” محطمة كل توقعات الساسة والمحللين. ولم يكن البوعزيزي محرض هذه الثورات فقط، ولكن كان في الساحة السورية إرث هائل من الاستبداد والقهر والفساد والكبت.
وتفاعل أغلب السوريين مع الثورة الحلم الأمل بالخلاص.. البعض إيماناً والبعض قهراً، والبعض مرجلةً وشهامةً، حالها حال غالبية الثورات عبر التاريخ؛ فليس المجتمع يملك وعياً سياسياً وفكرياً، وربما تكفي الثورات بدايةً وعياً عفوياً وحسّاً وطنياً، على أن يكمل ويكلّل بوعي عال. وهذا ما لم يحدث لاحقاً..
وبدأ الشباب تطوير أدواتهم في المظاهرات السلمية، من تنسيقيات عبر النت وشعارات وإعلام وإغاثة وأرشفة وطبابة. وكان البعض يتفانى ويقدم الغالي والنفيس ببراءة وطهرانية؛ يقدمون المال والعيال والممتلكات لدعم وتمويل الثورة.. (طبعاً، قبل دخول الجهات الداعمة على خط الثورة وما أحدثت وأنتجت!).
كانت عيوننا جميعاً متجهة إلى الثورة وخدمتها والإيمان بانتصارها، أو هكذا كنا نظن أو كما كان يبدو. ذلك لأن عيوناً أخرى كانت ترى الثورة من زاوية ثانية، وتتربص باحثة عن الغنيمة “بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا”، وتوافقت أطماعها مع جهات وجماعات، وأحياناً دول، كانت تقف دائماً للاستفادة من حالة الثورات والغليان، وربما بعضنا سمع أو رأى بعض هؤلاء الانتهازيين. لكن هناك أفراداً كثيرون وبعدة مستويات لبسوا لبوس الثورة، وانتهكوا طهرها في لحظة غفلة الثوار الحقيقيين وانشغالهم بثورتهم وجرحاهم ونقل معاناتهم للعالم الصامت.
البعض من هذه الشريحة كانت عينه على الآثار؛ فسارع للبحث والتنقيب وسرقة الآثار وبيعها لأولئك الجاهزين، وبأسعار بخسة لجهلهم بما بين يديهم من قيمة تاريخية، أو لبحثهم عن ربح سريع.. فيما ذهب البعض الآخر لجعل صور وفيديوهات الثورة ونضالها، وتعب أبنائها باب استرزاق؛ وذلك عبر بيع الخبر والصورة.. وبيع ألم الناس ووجعهم لقاء حفنة من مال (طبعاً هنا الحديث ليس عن الإعلاميين الثوريين بل عن المتسلقين).
أما آخرون فكانوا أكثر ذكاءً من غيرهم؛ فعيونهم كانت تلهث وراء الوثائق في المقرات، سواءً الحكومية أو العسكرية، ولاسيما المقرات الفلسطينية. غنيمة ثمينة وقعت بين أيدي جهلة باعوها ببضع آلاف من الدولارات، واستثمرها غيرهم بمئات الآلاف من الدولارات، فيما لا يدرك هؤلاء مدى ضررها أو تأثيرها في الوقت الراهن أو مستقبلاً.
وهذه الشرائح الجشعة التي تاجرت بثورة شعبنا لم تقف عند ذلك الحد، بل تلونت وفق تغير الأوضاع وتغير مراحل الثورة؛ فبدلت جلدها سريعاً، سيما وأنه لم يبقَ في الوليمة إلا العظم.. وانتقل نشاطها مع بداية تسلّح الثورة إلى طرائق جديدة ومختلفة؛ فمن بيع السلاح واحتكاره، ثم إلى بيع النفط والمحاصيل الزراعية الاقتصادية، طبعاً كلٌ حسب موقعه ومنطقته وشبكة علاقاته.
وبعضهم اكتفى بالتجارة بلقمة عيش المحاصرين عبر شبكة علاقاته مع بعض المشبوهين من العسكريين على طرفي الصراع؛ نظام ومعارضة.
فيما آثرت شريحة ثالثة أن تلوذ بثروتها إلى خارج البلاد، ليمارس البعض دور المناضل والثائر وتوزيع شهادات الوطنية والشرف على الناس..
فيما البعض الآخر أسس لنفسه مؤسسة ثورية (لخدمة الثورة وأهلها!) يتاجر ويقبض المساعدات والهبات..
وفي خضم هذا المشهد يبقى الأمل وروح الثورة بالصامدين المرابطين في قراهم ومدنهم..
ممن صدقوا وينتظروا..
وما بدلوا تبديلا
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج