سامي الساري
لا يزال موضوع العدالة الانتقالية هو الشغل الشاغل للكثير من المنظمات الحقوقية والأفراد العاملين في مجال القانون، وحتى من غير المختصين بالقانون، كما حصل معي حين صادفت أحد الأصدقاء وهو خريج كلية تربية أطفال، ويقوم بإعداد مشروع عن العدالة الانتقالية والمحاسبة. فاعتبرت أنه من حقه كـ سوري متضرر من الأحداث الجارية أن يقدم ما يساعد في عملية المساءلة والمحاسبة. ولكني أتساءل هل من يقوم بإعداد هكذا مشاريع على علم ودراية بطبيعة المجتمع وتركيبته؟ هل هم على دراية أن معظم الشعب السوري لا يثق بالقضاء ومؤسساته، لأسباب يطول شرحها؟ هل لديهم معلومات عن القضاء العرفي أو المحلي، وتحديداً في المناطق ذات الطابع القبلي، والتي لا زالت تؤمن بفكرة الثأر والانتقام والاصطفاف وراء القبيلة أو العشيرة، وقتل المرأة بداعي “الشرف”؟ هل وضعوا بالحسبان كيفية كبح جماح الانتقام والثأر العشائري؟ أم أنهم سائرون على نهج “القائد الخالد” -رغم موته- في إهمال هذه المناطق باعتبار أهلها مواطنين من الدرجة الثالثة؟!
بالعودة إلى العدالة الانتقالية، فمع حدوث أي تحول سياسي أو انتقال ديمقراطي في الدول التي كانت تشهد نزاعات وحروبا وقمعاً وعنفاً واضطهاداً، يتطلع المجتمع بعدها للتعبير عن نفسه، ويشعر بأحقيته في تقرير وتحديد مصيره. لكن التفكير بالماضي يبقى عائقاً أمام ممارسة المجتمع لدوره الفعال، ولعل أبرز ما يشغل بال شعوب هذه الدول هو كيفية تطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، والتي لا تعني في أغلب الأحيان سوى المصالحة، والتي يترتب عليها معاقبة المجرمين وتعويض المتضررين. فنجد أن الكثير من الدول قد نجحت في عملية التحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية، وقادت إلى نتائج مذهلة وساهمت في تعزيز المسار الديمقراطي، وتكريس العدالة وسيادة القانون.. وإذا أخذنا مثالاً -لا على سبيل الحصر- التجربة الرواندية، وحاولنا تطبيقها في بعض المناطق في سوريا تحديداً، في ظل وجود نار خامدة تحت الرماد، فما أن تسنح الفرصة حتى تعود فكرة الثأر والانتقام، فنتوصل لنتيجة أنها تجربة مهمة، وجديرة بالاطلاع، ويجب الاستفادة منها في المناطق ذات الطابع القبلي، وحتى في غيرها من المناطق. فبعد أن وضعت حرب الإبادة الجماعية أوزارها، والتي أدت إلى إبادة حوالي المليون شخص في ثلاثة أشهر! استطاع الروانديون أن يتفقوا على حلّ خلافاتهم وذلك عن طريق إجراءات كان أبرزها تطبيق نظامٍ “المحاكم المحلية للعدالة”، و تعرف هذه المحاكم المجتمعية باسم: “غا تشا تشا” وأنشئت في عام 2001م، من أجل مواجهة كم كبير من القضايا المتراكمة في النظام القضائي. وفي هذا النظام يقوم القضاة المنتخبون على الصعيد المجتمعي بعملية المحاكمة والبت بقضاياها. واعتمدت نظام المحاكم المحلية (في القرى) للإسراع بالعملية القضائية، والذي يفضي إلى تحقيق العدالة والمصالحة في رواندا، ويحمل مصطلح (غاتشاشا Gacaca) في اللغة الرواندية: (الحديقة)، حيث كان شيوخ القرية ومجتمعهم يتجمعون لحلّ مشكلة ما. ومن هنا فإنّ محاكم غاتشاتشا تتوافق مع محاكم القرى التقليدية القائمة؛ حيث كان يتم استدعاء المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية إلى القرى، وتوجّه التهم مباشرة من قِبل المشتكين، ويشرف على المحاكمات قضاة مؤهلون، ولكن من السكان المحليين. وأثبتت نجاحاً كبيراً، حتى إنها تفوقت على المحكمة الجنائية الدولية التي شكلتها الأمم المتحدة، والتي كان مقرها في تنزانيا، ومن جملة الانتقادات الموجهة لهذه المحكمة أنها لم تفلح إلا بإصدار 18 إدانة طوال 10 سنوات. وهذا ما يثبت أن هذه التجربة ستنجح في سوريا في المناطق ذات الطابع القبلي، لأن هذا النوع من القضاء موجود ولكن باختلاف بسيط أن القضاء العشائري إن صحت تسميته لا يعتبر قضاءً نظامياً، ولكن رسخ في العقل الجمعي لدى الأشخاص المنحدرين من أصول قبائلية أنه فعال وأسرع من القضاء النظامي، وأن “العارفة” أي الشخص الذي يحتكم عنده الأشخاص، أكثر فعالية من القاضي، ومن مميزاته أن يجبر الأشخاص على الالتزام بقرارته.
من وجهة نظري أعتقد أن التجربة الراوندية ستكون ناجحة في هذه المناطق بشرط أن لا يتم تكريسها كمؤسسة قائمة، لأنه لا بديل عن إنشاء قضاء مستقل وعادل يحفظ كرامة وحقوق السوريين والسوريات. ومن أجل الحفاظ على كل قطرة دم وروح ستزهق لاحقاً، نجد أنفسنا مضطرين للرجوع قليلاً إلى الوراء وتطبيق مثل هكذا محاكم، بإشراف مختصين بحقوق الإنسان، لنحافظ على ما تبقى من النسيج السوري الاجتماعي، والبدء ببناء دولة القانون والعدالة والمساواة.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج