مجلة طلعنا عالحرية

هل تغير النصوص السورية مفهوم الكتابة العربية؟

جميل جرعتلي

هل تغير النصوص السورية، مفهوم الكتابة العربية من أساسه؟ سؤال يحضر بقوة كلما قرأنا الشعراء الشباب الذين يبدون خارجين للتوّ من مصنع القصائد الساخنة مع الأحداث وتشكل المعاجم الجديدة غير المألوفة مع الصور والتراكيب وكل ما درجنا على تسميته ببنية القصيدة ككل؟. قطعًا ليست المسألة مرتبطة بالشكل فقط، فقديمًا كان الجميع يقولون إن الأزمة في الشكل، أما الأفكار فهي “موجودة على قارعة الطريق”، لكن ما هو واضح اليوم أن الأزمة هي في الأفكار أيضًا ناهيك عن الأساليب التي يفترض أن تحملها، فمفهوم التراث والحداثة والأصالة وهل الأدب مرآة أم منارة بالإضافة إلى العلاقة مع الدين والمجتمع والسياسة والاقتصاد، كلها أفكار تحتاج إلى إعادة تحديد ونقاش من أجل بلورتها وربما إصلاح الموقف منها، ذلك أن الأدب ليس حياديًا بل مستشرفًا وفاتح آفاق ربما لا يقدر على تخيلها الساسة والباحثون والقادة!

من يتابع الإصدارات الشعرية السورية المتوفر معظمها على الانترنت في مواقع دور النشر، يكتشف هذه الحقيقة النقدية، هذه النصوص المكتوبة على عجل في أتون الحرب، تحمل بذور تغيير كبير في المستقبل، خاصة من جهة المعجم والصور الشعرية التي تدخل القصيدة العربية للمرة الأولى، وهذا ليس غريبًا فالشعراء السوريون تاريخيًا كان لهم الفضل الكبير في إحداث الانعطافات الكبيرة في مسيرة الكتابة العربية. نعم، لم تكن تحضر بقوة مفاهيم خطيرة مثل الدين والوطن والسياسة، وكذلك جريئة مثل الحب، فشعراء وشاعرات الملتقيات الأدبية يعلنون قصائدهم العاطفية على فيس بووك وينشرون صورهم وهم يدفعون بالحب أوردة دمشق الرازحة تحت وابل مرهق وصعب جدًا من الحرب.

هل كانت الأحداث الخطيرة بمثابة الصخرة الضخمة التي سقطت في بحيرة ساكنة فحركت كل تلك الدوائر المتلاحقة من الكتابة والفن والإبداع؟ فالمعروف أن مختلف الفنون تشهد هذا الحراك والبحث الدؤوب عند الشباب على مرافئ مختلفة عن السائد، كأن الانقلاب والتغيير أصبح هاجسًا عند الجميع دون استثناء!. في هذا الفضاء قلنا إن التحديث والتغيير على صعيد البنية والأفكار لن يكون أقل شأنا من الأساليب، فالشاعر السوري حسم أمره نهائيًا خارج أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو الآن يكتب قصيدة النثر التي يمكن أن يغادرها لاحقًا إلى أوزان يبتكرها ويتبناها لأنها ستكون الابنة الشرعية للبيئة السورية في نهاية الأمر. فهل يحتاج العقل السوري اليوم إلى عمليات تفكيك كبرى يجريها تجاه المفاهيم الفلسفية التي بقيت حتى فترة طويلة مصنفة ضمن المحرمات الممنوع الاقتراب منها؟ وهل من الممكن أن ترفع هذه الحرب منسوب الجرأة إلى درجة عالية جدًا بحيث لا يبقى أي شيء مستبعدًا عن البحث العقلي والحوار الموضوعي والمنطقي؟

في قصائد الشباب السوريين نكتشف كل هذه الاحتمالات، وربما يكون انفلات الروح المتوثبة الشابة من عقال الرقابة هو أحد الأسباب في اكتشاف هذه الآفاق الجديدة، فالأخبار تقول إن طباعة الكتب في دمشق في هذه المرحلة تمرّ دون المرور في حلقة الرقابة ودون الانصياع لمقص الرقيب، ولهذا فإن ازدهار الأفكار يبدو مفهومًا، ذلك أن الرقيب لا ينشغل بالأساليب بل بالأفكار لأن مهمته اغتيالها والمحاسبة عليها.. يقول البعض إن الذائقة الشابة لم تعد تطيق الرزوح أكثر من ذلك تحت المفاهيم الكلاسيكية، وأصبح يلزمها نفضة جذرية تترك المجال مفتوحًا لنمو الأغصان الجديدة والبراعم التي كان يخنقها الضغط بمختلف أشكاله، فهناك في دمشق اليوم سباق في اختيار العناوين الغريبة والفريدة، وكتابة الصور النادرة بالإضافة إلى اتباع الطقوس غير المستخدمة في السابق، هذه الحيوية جعلت بعض الشعراء يخترعون على صعيد توقيع كتبهم أيضًا، وفي كل هذا حضرت المرأة الشاعرة بنصوص فريدة لم تكن تمتلكها في السابق، فالكل يعرف أن هناك أزمة ما في نصوص الشاعرات، وبأدنى تعبير هنّ قليلات أو نادرات جداً للأسف..!

معظم مطبوعات الشعر اليوم تخرج من إطار الشكل التقليدي للكتابة، ويقول الشعراء في لقاءاتهم الصحفية وعلى صفحاتهم الشخصية في الانترنت، إنهم يبحثون عن الاختلاف ويحاولون إضافة الجديد على الإرث الشعري الذي بقي زمنًا طويلاً يكرر نفسه من حيث المقدرة على هز الروح البشرية ورفدها بالحيوية والنشاط. تلك الحالة يقول النقاد إنها ترتبط بهول المجريات على الأرض، فتبعًا لخطورة الأحداث واحتمالات الموت أو النجاة حتى عند الفرد الشاعر، فإن الجرأة لم تعد تنتظر إجراء الحسابات في الأساليب الشعرية، كذلك فإن التفاعلات داخل النفس والمحيط المجتمعي قد اختلفت كثيرًا كما يقول الشعراء أنفسهم، وكأن المشهد السوري راح يعيد مناقشة الحب والوطن والانتماء والجسد والمرأة بروح جديدة، وعقل منفتح رغم الظلام الذي يلف المشهد بفعل الحركات الدينية المتطرفة، واتضاح الرؤيا بأن السلطة لم تكن يوما معنية بالوطن، فالمعروف أن المشهد الشعري السوري يمتلك أسباب تطوره في داخله، وهو فضاء يختلف عن الشرائح المكبلة من المجتمع لذلك فإن المراهنة على ابتكاراته المدهشة في المراحل القادمة، مسألة تتفق مع منطق التاريخ الطبيعي إذ إن هذه الكتابة كثيرًا ما صنعت الانعطافات!.

Exit mobile version