داريوس الدرويش*
مع بداية العام الدراسي الحالي، أصدرت سلطات الإدارة الذاتيّة في سوريا مناهج باللغة الكرديّة في المدارس الخاضعة لسيطرتها؛ حيث جرى استبدال لكافة الكتب العربيّة المقرّرة للصفوف الثلاثة الأولى من مرحلة التعليم الابتدائي بكتب مشابهة باللغة الكرديّة، مع مراعاة إزالة كلّ ما يتعلّق بالأدلجة البعثيّة في تلك المناهج السابقة. وقد طال التغيّير معظم المدارس الحكوميّة بعد بعض المصادمات مع وزارة التربيّة التابعة لنظام دمشق، في حين بقيت المدارس السريانيّة والأرمنيّة الخاصّة والمدارس الحكوميّة في الأحياء ذات الغالبيّة العربيّة مستثناةً من هذا القرار.
وحال الإعلان عن هذه المناهج الجديدة، تصدّرت أحزاب المجلس الوطني الكردي معارضة هذا القرار بحجج متفاوتة؛ فما تمّ تسويقه على أنّه رفضٌ لتحويل المناهج من الأيديولوجيّة البعثيّة إلى الأيديولوجيّة الأوجلانيّة، لم يتمّ إثباته، بل ترافق مع مطالب بإعادة المناهج القديمة المؤدلجة أساساً، كما أنّ إثارة المخاوف حول مسألة الاعتراف بهذه المناهج من قبل وزارة التربيّة لم تستند على أساس قانوني أو عملي؛ فمن جهة، لا تشترط وزارة التربية على المتقدّمين لامتحان الشهادة الإعداديّة أن يمرّوا بالمراحل المدرسيّة السابقة لها، ولا تشترط على المتقدّمين لامتحان الشهادة الثانويّة سوى الحصول على الشهادة الإعداديّة (مع مراعاة العمر في الحالتين)، ما يعني أنّ أيّ منهاج يدرسه الطالب يعتبر “معترفاً” به قانوناً طالما يساعدك على النجاح في تلك الامتحانات، وهذا ما يفسّر وجود العديد من المدارس الخاصّة في دمشق وحلب (المدرسة الباكستانية، الأمريكيّة… الخ) والتي لا تلتزم بشكل كامل بالمناهج الحكوميّة. أما من الناحية العمليّة، فهل يمكن للكرد توقّع أنّه حال تخرّج الطلاب الذين يدرسون باللغة الكرديّة بعد 12 عاماً من الآن (وبعد 17 عاماً من انطلاق الثورة السوريّة) لن تكون الدولة السوريّة، أيّاً كان نظام حكمها، معترفة باللغة الكرديّة، وبالتالي بشهاداتهم؟ إن لم يكن هذا مضموناً، فمن الأفضل القلق على مصير الشعب الكردي بالكامل عوض القلق على مصير الطلاب فقط.
والحال أنّ نقض تلك الحجج الشكليّة لا يجب أن يقف حاجزاً أمام معرفة الدوافع الحقيقيّة لهذه المعارضة، فاتّجاه عدد غير قليل من ذوي الطلاب الكرد إلى تسجيل أبنائهم في المدارس ذات المنهاج العربي لا يوحي باقتناع تام لدى الكرد بجدوى المناهج الكرديّة، وربّما يكون من المفيد أكثر إعادة هذه الدوافع إلى عوامل اقتصاديّة عوض الحكم عليهم بأنّهم “ليسوا كرداً”، فسوق العمل في سوريا كانت مركّزة في المدن الكبيرة ذات الغالبيّة العربيّة، ما يعني أن لغة العمل هي اللغة العربيّة وذلك بغضّ النظر عن مدى انفتاح الحكومة السوريّة تجاه اللغة الكرديّة في المستقبل. ولطالما كان عدم إتقان الكرد للعربيّة محادثةً عائقاً هائلاً أمامهم للحصول على عمل مناسب، هذا رغم أنّ النظام التدريسي كان بكامله عربيّاً، فكيف به إن تحوّل إلى الكرديّة؟
وبغضّ النظر عن أنّ أيّاً من الإدارة الذاتيّة والمجلس الوطني الكردي لم يقم بدراسة جديّة لمدى واقعيّة هذه المقاربة للمستقبل في ظلّ التغيّرات السياسيّة الكبرى التي تحصل الآن، عدا عن دراسة سبل لتلافي الضرر الذي قد يتركه هذا الواقع على كلّ لغات الأقليّات في سوريا (الكردية – السريانيّة – الأرمنيّة – الشركسيّة… الخ)، فإنّ المجلس الوطني الكردي تلقّف هذه المخاوف ووجدها ثغرةً مناسبةً ليعود عبرها إلى الشارع الكردي بعد انكفاء طويل.
ونتيجة لعدم قدرته على التعبير الدقيق عن هذه المخاوف (عبر تسويق الحجج السابقة)، فإنّ العديد من الناشطين المستقلّين، إلى جانب سياسيّي الإدارة الذاتيّة، اعتبر أنّ هذه العودة جاءت كمواجهة للحقوق الثقافيّة الكرديّة من قبل الأحزاب الكرديّة نفسها، وهو الموقف الذي لم يتوقّعوه حتّى من القوى العربيّة في المعارضة السوريّة.
وربّما يكون من المعقول هنا تفسير الموقف “المتساهل” للآسايش (جهاز الشرطة في الإدارة الذاتيّة) مع المظاهرات التي أطلقها المجلس الوطني الكردي ضدّ هذه المناهج، وهي التي لم تتساهل على هذا النحو مع مواقف معارضة تجاه سياسات أخرى في السابق، بأنّ هذا الموقف كان في سبيل إزالة العقبات أمام المجلس لإظهار نفسه بمظهر المعارض للحقوق الأساسيّة للشعب الكردي، وبالتالي فقدان المزيد من شعبيّته القليلة أصلاً.
*كاتب كردي سوري
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج