ربما يثير عنوان المقالة تداخلاً فيما بينه وبين عنوان كتاب لـ”نيتشه” اسمه “هكذا تكلّم زارادشت”. فاسم “زارا” في الكتاب اختصارٌ لاسم “زارادشت”، بينما هنا هو اسم لقرية سوريّة. وإذا كان كتاب “نيتشه” يُنبئنا بقدوم الإنسان المتفوق “السوبرمان” وتأسيس “إرادة القوّة”، فإنَّ مجزرة قرية “زارا” المُرعبة تُنبئنا بفعل الإنسان العاديّ ونمو الباطل والقبح والانحطّاط في فعله على حساب ثلاثي الحقّ والخير والجمال!
أجل، تكلّمت “زارا” من خلال مأساتها لتُخبِرنا عن قيمة الفعل القبيح والشّرّير والباطل كفعلٍ يُناقض قيمة الجميل والخيّر والحقّ أولاً، ولتخبرنا أيضاً عن واقعة تعايش هذه القيم المتناقضة معاً في نفسنا البشريّة الفرديّة ثانياً. وعن هذا التعايش أكدّ “هيراقليط” فلسفياً على انشطار الواحد إلى اثنين في آنٍ: الحرارة هي سخونة وبرودة، والمكان هو فوق وتحت، والزمان هو قبل وبعد، والحق هو باطل وحقيقة، والجمال هو قبيح وجميل، والأخلاق هي شرّ وخير..
وهكذا إذاً، يعيش مرتكبو الأفعال الوحشيّة بيننا كأناس عاديين، نصادفهم في شوارعنا ومطاعمنا، وقد تعلموا في مدارسنا وجامعاتنا، وصلّوا في جوامعنا، وعليهم هيئة البشر، لا تُفرِقّهم عن غيرهم من البشر، فلا تراهم على هيئة وحوش كاسرة لتبتعد عنهم. إنهم يجمعون في آنٍ شخصية البطل عند من يمدحهم وشخصية الوحش عند من يذمّهم، وهم أناس عاديون بالحقيقة! هذا بالرغم من أنني كنت مقتنعاً بدايةً بأنَّ من يقوم بفعل القنص الحقير والقتل الشنيع بالجملة ليسوا سوريّين بل إنهم من جنسيات غير سوريّة ربما تكون إيرانيّة، فكيف لسوريّ أنْ يفعل بسوريّ آخر هذا الفعل؟!
كتب “فرويد” يوماً عن معاودة غريزة القتل والتهام لحم البشر إلى الظهور في أزمنة وأمكنة مختلفة كضرورة نفسيّة أصيلة تظهر في الحالات الحديّة، وحاول تشذّيب هذا “العود الأبدي” لظهورها بواسطة الحضارة، علّها تقيّد هذه الظاهرة وتنحو بها للزوال. ولكن هيهات أنْ تُشذِّب حضارتنا مثل هذه الأفعال الهمجيّة؛ لأنَّ حدود ودرجات المقولات الحضاريّة كالخجل والقرف والخوف والألم والندم تتقلص وتتوسع بفضل اللذّة والإيديولوجيا النسبيّة التي لا تُفاضِل بين القيم.
والأمثلة -على الأفعال القبيحة والمنحطّة والباطلة- كثيرة جداً مع الأسف، ومتنوعة جداً بتنوع الأفراد والجماعات والجهاديّين والأحزاب والأنظمة والدول في مسلسل الرعب السوريّ الذي “أبطاله” قوى متعددة الجنسيات والأديان والأعراق والطوائف، حتى طالت بعض وسائل الإعلام والإعلاميّين. وفكرة “الجهاد” كاستراتيجيّة رعبٍ فكرةٌ باطلةٌ حقوقياً وشّرّيرةٌ أخلاقياً وقبيحةٌ جمالياً ولكنها فكرة سيّدة ومعياريّة عند كثيرٍ من العاديين.
تطول قائمة المرعبين كثيراً وتطال كثيرين. فمن صورة “عصام زهرالدين” بجانب أشلاء بشريّة معلقّة، ورجوعاً إلى صورة جهاديّين يدوسان جثث نساء في قرية “الزارا” وصور ضحايا المجزرة فيها التي ارتكبها النظام، إلى “سيلفي والجثث خلفي” لإعلاميّة موالية في حلب و”سيلفي والجثث خلفي” لإعلاميّ معارض في حلب، لمقطع الفيديو الذي يبيّن الاحتفال بالجثث والتعامل معها عند حزب “البي واي دي”، لصور الجثث بدون رؤوس ومدعوس عليها في تدمر من قِبل جيش النظام، للقصف الروسيّ الهمجيّ على مدينة حلب وأسواقها ومدارسها ومشافيها وما رافقه من صور وفيديوهات وتقارير إعلاميّة، للمجازر التي ارتكبتها القوى الإيرانيّة ومشتقاتها، لمجزرة الكيماوي التي قام بها النظام في الغوطة الشرقيّة والامتصاص الدوليّ لها، للتغطية الإعلامية في مجزرة “داريا” وتنقل الإعلاميّة بين الجثث حينها، مروراً بالسفاح “جون” وقطع رؤوس الرهائن والذبح بالجملة على يد داعش والنصرة، وصولاً إلى “أبو صقار خالد الحمد” آكل قلب جنديّ سوريّ في “بابا عمرو”، دون أن ننسى مجازر النظام في “الحولة” و”جديدة الفضل” و”العتيبة” وصور 11 ألف معتقل قضوا تحت التعذيب..
ثمة نمط يسري في مختلف حالات التعاطي مع المجازر والقتل والتمثيّل بالجثث وكأنه خوارزمية إجراءات منهجيّة تبدأ بتكذيّب الواقعة أولاً، ثم تلفيّق التهمة للعدو ثانياً، وبعدها تمّجيّد الفعل ثالثاً، ومن ثم تبريّره عقلياً رابعاً، وتوظيفه في محاربة الإرهاب والدفاع عن النفس الفرديّة أو الوطنيّة أو القوميّة أو الدينيّة خامساً، لنصل لتبريء الفرد أو الجماعة من المسؤوليّة عن الفعل وتحميّل وزر الفعل على الدين أو الطائفة أو الجنس سادساً!
ولم تكف قيم حضارتنا لتخفيف قبح المشهد وضلاله وانحطاطه! ولم يكفِ تكرار الباطل والقبيح والشرير ليجعل من الظاهرة أمراً عادياً ومألوفاً ومبتذلاً! ويستمر هذا الفعل رغم إدانته واحتقاره ورغم تبريّره وتمجيده، الشيء الذي يشي بأنَّ أي واحد منا يمكن أنْ يفعل هكذا! فتقويض الحقّ والجمال والخير لصالح الباطل والضلال والقبح والشّرّ يتلازم مع تقوِيض كوننا ومجتمعنا وعملنا. وربما نصبح بهذا التقويض غير محصّنين تجاه ممارسة أفعال الرعب! فكيف يتحول شخص عاديّ مثله مثلنا ارتاد مدارسنا وصادفناه بشوارعنا ومطاعمنا وجلس بيننا إلى أن يكون وحشاً من جهة وبطلاً من جهة أخرى؟!
لا يصدر الفعل الباطل والشّرّير والقبيح بحالتنا عن الشيطان ولا عن الضرورة، بل يصدر منّا نحن البشر العاديون ونحن بكامل قوانا العقليّة. وما تبرئة النفس البشريّة من فعلها الفرديّ وخيارها الشخصيّ وإدانة دين صاحب الفعل أو طائفته أو جنسه إلّا ديماغوجية وتضليل للابتعاد عن واقعنا كأجساد بشريّة لها حدود على تحمل الجوع والعطش والألم والجنس.
إنَّ القيمة علاقة مساواة أساساً بين أفعال مختلفة تتساوى في عموميّتها أو قواسمها المشتركة. وبحذف المساواة نكون قد حذفنا العمومية والقيمة من الفعل وعندها يصبح من المستحيل معرفة الفعل وتقويمه. ونغرق عندئذ في حالة اللاتفاضل بين القيم، وفي حالة النسبيّة التي ترى في القتل غير الضروريّ مجرد وجهة نظر!
ما ينقصنا سورياً ليس السلاح والمال والاستجداء، ما ينقصنا هو القيمة في ثلاثية الحقّ والخير والجمال! وكما تكلّمت “زارا” وقبلها “حلب” و”حمص” و”درعا” و”الغوطة”.. نقول: هكذا تكلّمت سوريّة!
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.