يخطر لي كثيراً التفكير بما يلي: هل لو أنني قررت العيش في مصر بملء إرادتي دون أن أكون مضطرة للخروج من سوريا بالطريقة التي خرجت بها، وصارت حالي على ماهي عليه الآن، هل كان إحساسي بنفسي كإمرأة وحيدة وككاتبة في بلد ليس بلدها، سيكون مختلفاً عن إحساسي كإمرأة وحيدة وكاتبة في بلدي؟
حقيقة، لا تبدو الإجابة سهلة، ولا يبدو أنّ الأمر محسوم لي، فأنا لم أعش سابقاً خارج سوريا، كنت أسافر منها وأعود إليها دائماً، لم تكن فكرة الحياة خارجها أساساً مطروحة بالنسبة لي, كنت أعيش هناك ولديّ مشروعي الشخصي الذي أشتغل عليه.
بالنسبة لي كامرأة تعمل في الحقل الأدبي لم أواجه على المستوى الشخصي إشكاليات وتعقيدات في عملي ككاتبة, لم تكن لدي مشكلة لا مع عائلتي ولا مع بيئتي في أن أكتب ما أريد، أمّا مشكلة الرقابة التي سيطرت على البلاد فكان حلّها سهلاً بالنسبة لي كشاعرة، إذ يمكنك عبر الشعر استخدام التأويل واللعب بالخيال وبالتالي اللعب على ذهنية الرقيب، ولا يعني هذا أنّ الأمر سهل أو أنّه ليس هناك مشكلة؛ ففي كتابة المقال الصحفي كان ثمّة خطوط حمر كثيرة، ليس فقط مع الرقابة، بل مع القرّاء أحياناً، أذكر ذات يوم أنني كتبت مقالاً عنونته بالتالي: (أنا لا أحب نزار قباني) أتتني على أثره كمية من الشتائم لا يمكنني نسيانها.
الآن ذهب كل ذلك، أنا في مرحلة أخرى، الآن أعيش في بلد عربي، نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي يشبه أنظمة المنطقة العربية كلها، أعيش فيه ليس رغماً عني، إذ يمكنني العيش في مكان آخر لو أردت ذلك، لكن هذا المكان أو أي مكان آخر هو ليس بلدي، بالتالي أعيش كلاجئة رغم أنني عملياً لست مسجلة في مفوضيّة شؤون اللاجئين كلاجئة ولا أتلقى مساعدات لا من الأمم المتحدة ولا من الحكومة المصرية حيث أعيش. أعيش من كتابتي فقط، وكتابتي تعني مقالاتي في الصحافة العربية، لا الشعر، الشعر في بلادنا لا يطعم خبزاً كما يقولون.
أنا أسكن في وسط القاهرة، لا في أمكنة تجمّع السوريين، ولي الكثير من الأصدقاء الكتاب والمثقفين المصريين، أي أحاول عيش حياتي ككاتبة لا كلاجئة، أحاول الإيحاء لنفسي أنني أعيش حيث أنا لأنني أنا من اختارت ذلك، لا لأنه فرض علي الخروج من سوريا واللجوء إلى بلد ما، ومع ذلك ثمّة هذا الشعور الداخلي بأنني لست أكثر من لاجئة في بلد كان ذات يوم قديم الإقليم الجنوبي لبلدي.
ما الذي يجعل هذا الشعور يحتل كياني دائماً؟ أفكر بذلك وأحاول إيجاد الأسباب: أنا أعيش وحدي. إمرأة وحيدة في بلد ليس بلدها. في بلد، كحال كل البلدان العربية، لا يعامل المرأة الوحيدة باحترام، بل يفترض أن تكون هناك حماية ذكورية للمرأة، زوج أو أخ أو أب أو ابن، ليس لديّ أياً من هؤلاء.
أنا امرأة خمسينية، في بلدان كهذه لا يوجد فيها أي ضمان اجتماعي، على من مثلي أن تبقى قوية، ففي هذه البلدان لا يحترمون الضعفاء، ليس الحكومات فقط بل حتى الشعوب نفسها، لشدّة قهرها تمارس القهر ذاته على الضعيف. المرأة في هذه البلدان مهما كانت قوية ستكون هي الطرف الأضعف. أعيش من كتابتي، لا مصدر دخل آخر لي، لو أنني في بلدي سيكون لدي بيت عائلة وأصدقاء قدماء يسندون ضعفي، لو حصل وأصبت بالضعف، في بلد كمصر ليس لدي شيء من هذا، إن توقفت عن الكتابة لن أتمكن من دفع أجرة بيتي، علي أن أبقى قوية إذاً لأستمر في الكتابة.
لكن, الكتابة فعل مزاجي أولاً، حتى كتابة المقال، وليس فقط الشعر. أعاني أحياناً كثيرة من فكرة أنني مضطرة هذا اليوم لكتابة مقال وإرساله لينشر في موعده، لو أحجمت عن ذلك، سيقل دخلي، وربما إن لم أبد إلتزاماً كاملاً سيتم إيقافي عن الكتابة. هذ يعني أن أجاهد كي لا أنهار، كي لا أضعف، هذا يعني أن لا أصاب بالاكتئاب وباليأس وبالملل وبالقرف، إذ كل ما سبق سيعيقني عن الكتابة.
هذا الجهد الدائم لأبقى قوية يزيد من شعوري بالعزلة النفسية، العزلة التي تجعلني مضطربة وغير متأكدة من شيء، لا من الصداقات ولا من الحب ولا من شيء إطلاقاً. يظهر هذا عندي كله في الشعر، حين أبدأ في الكتابة لا أرى أمامي سوى عزلتي النفسية، أتأمل فيها وأكتب عن المرأة الخمسينية الوحيدة في بلد ليس بلدها ولا يمكنها حتى أن تحلم بالعودة إليه ذات يوم، في لحظة الكتابة تعود إلي ذاكرة عن مئات النساء اللواتي يشبه ظرفهن ظرفي الاجتماعي، فأكتب عنهن وأكتب عني وأكتب عن آخريات قادمات يشبهننا سيأتين إلى الحياة يوماً ما، أكتب هذا في الشعر وفي المقالات.
ثمّة شيء آخر في كتابة المقالات الصحفية، هو فكرة الخوف من كتابة أي شيء يتعلق بوضع البلد الذي أعيش فيه وأحبه كما لو بلدي الأصلي، فلو كتبت في انتقاد أي شيء فيه سيقال لي مباشرة، حتى من بعض أصدقائي من أهل هذا البلد: أنت ضيفة ولا يحق لك انتقاد مضيفيك، طبعاً هذا أهون ما قد أتعرض له، إذ في بلاد كهذه قد اتعرض للاستدعاء للتحقيق ومن ثم الترحيل، خصوصاً وانني أكتب في صحف غير مرضي عنها في مصر، فلو حاولت انتقاد أي شيء سأعامل كعدوة، هذا القلق اليومي والخوف من المستقبل والأسئلة الذاتية حول السياسة والشعر والحب والعزلة والفقد والموت هو ما يجعلني أكتب، وهو ذاته ما يسبب خوفي من التوقف عن الكتابة وبالتالي التوقف عمّا يجعلني أعيش!